(وأعوذ بالله من صحبة البطالين!
لقد رأيت خلقا كثيرًا يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد: خدمة! ويطيلون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة. وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزحون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان!
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة، لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد – أي قص الورق – وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منه، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي.)
ابن الجوزي