الكارثة المالتوسية (الجزء الأول)
هي “نظرية مالتوس” وكارثته حول المشكلة السُكانية، والتي يكررها الاقتصاديون عندما يتم الحديث عن الزيادة في النمو السكاني عندما لا يقابلها نمو مماثل في الموارد الغذائية.
هو توماس روبرت مالتوس “Thomas R Malthus” عاش بين (13 فبراير 1766م – 23 ديسمبر 1834م) اقتصادي وديمغرافي إنجليزي، وُلد من أسرةٍ إنجليزيةٍ ميسورة الحال، كان والده من مُلاك الأراضي، مثقفٌ وصديقٌ للفيلسوف (جون هيوم)، ومن معارف (جان جاك روسو). (1)
تَكونت أفكار مالتوس في المشكلة السكانية نتيجة للمناقشات التي كانت تدور بينه وبين والده الذي كان من المتأثرين بالفيلسوف وليام جودوين (William Godwin)، وآراءه المتفائلة عن الطبيعة البشرية حيث يرى أن البؤس الذي عليه الناس إنما يرجع إلى النظم الاجتماعية الفاسدة السائدة، أما الطبيعة عنده فهي خَيّرة. في حين أن مالتوس يرى أن النظم ليست هي المسؤولة عن البؤس والظلم، وإنما تقع المسؤولية على الطبيعة ذاتها. (2)
يقول صاحب كتاب(قصة الحضارة):
<<عندما ظهر كتاب جودوين (1793م) راح الأب والابن مالتوس يتناقشان بشغف فيما ورد به من أفكار، ولم يشارك الابن أباه في حماسه لأفكار الكتاب، فلقد شعر الابن بأنّ هذا الولع المثالي بالعقل المنتصر لا مُبرر له، لأنه قد جرى تسفيهه مرارًا بواسطة الحقيقة البسيطة التي مؤداها أنه كلما زاد الطعام وتحقيق الرخاء سرعان ما يؤدي تزايد السكان إلى محقِ هذا الرخاء، وقد عَبّر(سِفْر الجامعة) في التوراة عن هذا ببلاغة، فما دامت خصوبة الأرض محدودة، ولا سبيل لوقف الشهوة الجنسية فهذا يؤدي إلى تضاعف عدد الأفواه بسبب الزواج المبكر والإنجاب الكثير وانخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال والشيوخ، وهذا بدوره يؤدي إلى استهلاك أيّة زيادة في الطعام بسرعة. >>. (3)
تتلخص نظرية مالتوس التي طرحت عام[1798]م في أن:
◇ النمو السكاني يتم بموجب (متوالية هندسية)، وهي التي تعتمد على مضاعفة الرقم الأخير في السلسلة الحسابية (1 ـ 2 ـ 4 ـ 8 ـ 16 ـ 32) وهكذا…
◇ النمو في معدل إنتاج الغذاء، المُعبّر عنه اقتصاديًا بالناتج المحلي الإجماعي يتم بموجب (متوالية عددية)، وهي التي تعتمد على مضاعفة الرقم الأول في المتوالية
(1 ـ 2 ـ 3 ـ 4 ـ 5 ـ 6 ـ 7) وهكذا ..
على ذلك فخلال قرنين يكون عدد السكان بالنسبة لوسائل المعيشة كنسبة: 256 إلى 9، وبعد ثلاث قرون يكون كنسبة 4096 إلى 13، وفي مرحلة متقدمة تؤول الموارد إلى تناقص؛ فالطبيعة لها حد في العطاء تبدأ بعده في تناقص الموارد وهذا ما سُمِّي <<تناقص الغلّة>>.
وفقاً للنظرية المالتوسية هناك نوعين من الموانع التي تعمل على الحد من الزيادة السكانيّة:
-النوع الأول(موانع قهرية) مثل: المجاعات، والأمراض، والحروب. والتي ستقضي على جزء من السكان؛ فيعود وفقاً للنظرية التوازن بين السكان وكميات الغذاء.
-النوع الثاني( موانع وقائية) مثل: تأجيل الزواج بسبب الفقر أو غيره من الأسباب، الرذيلة (ويعنى بها مالتوس العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية) والعلاقات غير الطبيعية (كالشذوذ الجنسي ··إلخ)، واستخدام وسائل منع الحمل أو تمديد النسل داخل نطاق الزوجية أو خارجها،منع الحمل، الامتناع عن الزواج أو تأجيله.
خَلَص مالتوس في بحثه إلى نتائج هدّامة منها:
-لا يوصي بزيادة أجور العمال، لأنه إن زادت أجورهم تزوجوا مبكرًا وأنجبوا مزيداً من الأطفال مما سيؤدي إلى زيادة السكان زيادة تفوق الزيادة المتاحة في الطعام فيعود الفقر من جديد·
-لا داعي لزيادة الضرائب المخصصة للإنفاق على العاطلين، فهذا سيؤدي إلى التشجيع على الكسل، وسيجعل عدد أفراد الأسرة يزداد فتتضاعف الأفواه بسرعة أكثر من تضاعف الطعام المُتاح.
-اقترح وقف الإعانات عن الفقراء، وعدم التصدي للمشروعات الخاصة(الحرة).
-اقترح ترك قانون العرض والطلب ليقوم بدوره في العلاقات بين المنتجين والمستهلكين وبين العاملين وأصحاب العمل·
-اقترح وضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد.
-قال إذا لم نلتزم بهذه التدابير أو تدابير مماثلة، فلا بد أن نوطن أنفسنا على مجاعات أو أوبئة أو حروب تقوم أيضًا في إنقاص عدد السكان·
كانت الرؤية المالثوسية ثمرة واضحة لمرحلة الثورة الصناعية في أوروبا، تتسق مع مصلحة الطبقة الرأسمالية الصاعدة، حيث أعطتها المالثوسية أسلحة فكرية حادة في معاركها ضد رجال الإقطاع والعمال والتدخل الحكومي، ولهذا كانت موضع قبول عام في الفكر الاقتصادي السياسي الكلاسيكي.(4)
ظلّت هذه النظرية معتمدة من قبل الاقتصاديين في العالم مدةً طويلةً، وأدت إلى حدوث كوارث إنسانية، حيث اتخذت مبررًا للإبادة الجماعية لكثير من الشعوب، وأجبر أبناء بعض العِرقيات المضطهدة كالسود والهنود في أمريكا على إجراء التعقيم القسري، وإن اتخذ صورة تعقيمٍ اختياري في ظاهر الأمر، ومثل تجربة التنمية السوفيتية في روسيا التي استحلّت بدورها إبادة الملايين من البشر بحجة اعتصار التراكم المطلوب للتنمية والتقدم الصناعي.(5)
في هذا الصدد يقول (آلان تشيس Allan Chase) في كتابه (Legacy of Malthus تركة مالتوس):
<<إن أكثر من [63] ألف شخص قد جرى تعقيمهم قسريًا بين عامي [1907]م وَ [1964]م في أمريكا، والحقيقة-وفقاً للتحقيقات القضائية- فهناك مئات الآلاف من عمليات التعقيم الأُخرى التي كانت طوعيّة في الظاهر، غير أنها قسرية جرت عنوة في واقع الحال.>>
وهذا ما أكده القاضي الأمريكي الفيدرالي (جيرهارد جيسيل Gerhard A Gesell) عام [1974] في خضم قضية ترافعت فيها المحاكم لمصلحة ضحايا التعقيم القسري للفقراء:<<على مدى السنوات القليلة الماضية قامت الدولة ممثلة بالهيئات والوكالات الفيدرالية بتعقيم ما بين مائة إلى مائة وخمسين ألف شخص سنويًا من الفقراء>>.(6)
مع مدى الرعب الذي وَلّدته نظرية مالتوس أطلق الفيلسوف الاسكتلندي(توماس كارلايل) Thomas Carlyle مصطلح “العلم الكئيب” “the dismal science” على الاقتصاد بعد قراءته لكتابات مالتوس.
الجدير بالذكر أن مالتوس، ومع مرور الوقت، والشعور بمدى قوة حجج بعض من خالفه، قام في سنة [1824]م بنشر مقال في دائرة المعارف البريطانية راجع فيه نظريته وتراجع عن نِسَبِهِ، وركّز على زيادة عدد السكان كعامل في النضال من أجل الوجود. (7)
بعد ذلك بسنواتٍ طِوال؛ كتب (تشارلز داروين) الملحد صاحب نظرية(التطور الإلحادية) في سيرته الذاتية:
<<في أكتوبر سنة [1838]م بعد أن بدأتُ بحثي النظامي بخمسة عشر شهرًا، حدث أن قرأتُ-ترفيهًا عن نفسي- كتاب مالتوس عن السكان وكنت مُهيأ لتقدير قيمة الصراع من أجل البقاء … من خلال ملاحظاتي المستمرة الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات. لقد أذهلني ذات مرة؛ إنه في ظل هذه الظروف، فإن التغييرات الملائمة(المناسبة) ستُسبب حفظ النوع، والتغييرات غير الملائمة ستؤدي إلى التدمير. ونتيجة هذه العملية هو ظهور أجناس جديدة. وهنا تَمسّكت بنواصي نظرية البقاء للأصلح.>>(8)
هذا الاستشهاد من الدارويني الملحد؛ يوضح أن سلسلة من الأفكار الفاسدة تُزين السلسلة الكبرى للفساد لتُشكّل تاريخ الفساد البشري.
الجزء القادم مع النظرية المالتوسية وفشل التطبيق .
المصادر:
1-مالتوس اقتصادي أرّقه التكاثر السكاني موسوعة الجزيرة، مركز شبكة الجزيرة.
2-هـل كان مالتس علي حـق؟، د. حازم الببلاوي، الأهرام العدد [42622].
3-قصة الحضارة، ويليام جيمس ديورَانت، ص [560-566].
4-المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة، د. رمزي زكي، عالم المعرفة، الكويت، ديسمبر (كانون الأول) [1984]، ص [155].
5- انتقادات تطاول نظرية مالتوس عن التكاثر السكاني،أفنان الصمادي،الحياة 11-4-2015.
6- The Golden Age Is in Us: Journeys and Encounters – By Alexander Cockburn p 406
7- https://global.britannica.com/…/Thomas-Malthus-on…
8-قصة الحضارة،مصدر سابق.