أربع محطات من الظلم العلمي – الجزء الأول (عندما تتدخل السياسة)
أربع محطات من الظلم العلمي – الجزء الأول
المحطة الأولى: عندما تتدخل السياسة
تعتبر نظرية المجموعات واحدة من أهم الأعمال الرياضية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتعود النظرية لإيفيرست غولواس Everiste Golias الذي وضعها قبيل وفاته عن عمر قصير حافل بالتحديات لم يتجاوز العشرين عاما [1] . شكلت النظرية مقدمة لحلول لمسائل رياضية استعصى حلها على البشرية لعشرات القرون. عرفت هذه المسائل بالمسائل الكلاسيكية الثلاث بالإضافة الى إثبات إستحالة تربيع الدائرة [2].
ولد غولواس في عام 1811 خلال الإضطرابات التي عصفت بفرنسا بعد الثورة الفرنسية عام 1789. ولقد ولد غولواس في عائلة عريقة حيث كان أبوه عمدة للمدينة وسياسيا وفيلسوفا مرموقا إبان حكم نابوليون بونابارت. وعاش حياته في فترة مد وجزر سياسي تخللت وصول نابوليون الى حكم البلاد ثم خسارته الحرب مع روسيا ثم نفيه الى خارج البلاد وتعيين شارل العاشر ملكا لفرنسا. ورغم تأثر عائلة غولواس مباشرة بهذه الأحداث إلا أن أفيريست كان بعيدا كل البعد عن السياسة وأحداثها. وكما عدم إهتمامه بالسياسة, لم يكن غولواس مهتما بالرياضيات أيضا. إلا أن حياته انقلبت رأسا على عقب في السادسة عشرة من عمره عندما قرأ أعمال لاغرانج Lagrange و أعمال لاجاندرLagandre الرياضية فتملكه حب الرياضيات. ورغم حبه لرياضيات إلا أنه كان فاشلا في دراستها أيما فشل. حيث تم رفضه مرات عدة من الأكاديميات الرياضية في فرنسا وعدم قدرته على النجاج في إمتحان البكالوريا حتى.
بعد مضايقات طويلة من قوات الملك وإثارة الإشاعات حول عائلته وإرث أجداده قام والد غولواس بالإنتحار مخلفا ألما كبيرا في حياة ابنه تبعه رغبة جامحة بالإنتقام.
أدت وفاة والده الى تغيير نظرة أفيريست الى العالم والسياسة وبدأ الإنضمام الى المجموعات “الثورية” إن صح التعبير. مما أدى الى تعرضه للسجن لفترات متقطعة ومضايقات طالت تجاهل أعماله الرياضية.
بدأ غولواس خلال هذه الفترة بالعمل على نظرية المجموعات التي وضع أسسها كاملة حتى باتت تعرف اليوم بنظرية غولواس. وكلما حاول تقديمها لأحد الرياضيين الفرنسيين كانت تقابل بالرفض نظرا لإنتماء صاحبها الى فريق “الثوار”. حاول غولواس إيصال أبحاثه الى خارج فرنسا. حيث وصى أخاه قبيل وفاته بالتواصل مع العالم الرياضي الألماني العبقري الشهير غاوسGauss إلا أنه لم يسمع من غاوس أي ردود.حيث يشك المؤرخون بأن أعماله وصلت غاوس أصلا. كانت تلك المحاولة الأخيرة لغولواس قبل وفاته في أحد المعارك بين “الثوار” الفرنسيين وقوات الملك. ورغم إكتمال أعماله في نظرية المجموعات إلا أن أيا من الرياضيين الفرنسيين قبل مراجعة أعماله خصوصا فوريير Fourier الذي كان مديرا لأكاديمية باريس الرياضية والذي كان من أشد المعارضين لأعمال غولواس.
في عام 1843 أصر ليوفيل Liouvelle على نشر أعمال غولواس في نظرية المجموعات ورغم نشرها إلا أنها لم تلق رواجا في المجال الاكاديمي بسبب الخلفية الثورية لصاحبها المتوفى. ظلت نظرية المجموعات في الأدراج قرنا من الزمن حتى بدأ استعمالها بكثافة في نظرية الأكواد والتشفير. [3] المحطة الثانية: عندما يكون المراجع جاهلا
في عام 1993 ضج عالم الإتصالات بإكتشاف جديد قلب نظرية الأكواد رأسا على عقب. بعض الباحثين لم يصدق النتيجة. البعض الآخر وقف مدهوشا. والبعض الآخر سارع بكل ما يملك من إمكانيات لإستغلال هذا الإكتشاف الجديد في أبحاثه واختراعاته. عرضت الورقة البحثية الأولى لصاحبها كلاود بيرو Claude Berrou في المؤتمر العالمي للإتصالات IEEE international Communications Conference ICC [4] في جينيف. يومها إمتلأت قاعة التقديم عن بكرة أبيها بالباحثين من مختلف مجالات الإتصالات. معالجي الإشارات, مهندسي الأكواد, منظري المعلومات. كلهم أجتمعوا للإستماع الى كلاود بيرو الذي وقف بنشوة المنتصر يقدم ورقته البحثية Near Shannon Limit Error correcting Coding.. والتي عرفت لاحقا باسم Turbo Codes.
قدم مؤسس نظرية المعلومات Information theory كلاود شانون Claude Shannon في عام 1948 تصورا حول طبيعة نظام الإتصال الرقمي حدد فيه سعة قناة الإتصال التي لا يمكن تجاوزها. بحيث إذا تجاوز أي نظام إتصالات هذه السعة سوف ينهار بالكلية ويفشل في إيصال معلوماته بين المرسل والمستقبل. وأوضح شانون بالبرهان الرياضي أنه بالمبدأ يمكن إنشاء نظام إتصالات قادر على إرسال كمية معلومات صحيحة (غير مشوهة) مساوية لسعة القناة. إلا أن مثل هذا النظام غير قابل للتصميم العملي. وبناء عليه فإن كل أنظمة الإتصالات المتوفرة لا بد أن تتأثر بطبيعة قناة الإتصال وبالتالي تتعرض معلوماتها المرسلة الى تشويه. يسمى هذا التشويه نسبة الخطأ الرقمي Bit Error Eate BER .[5] لمقاومة هذا التشويه يعمل نظام الإتصال عادة الى زيادة قوة الإشارة الراديوية المرسلة وبناء عليه مع كل زيادة في قوة الإشارة ينخض معدل التشويه هذا. نستطيع رفع قوة الإشارة Signal power حتى نصل الى مستوى لا يعود يجدي فيه نفعا هذا الرفع. بمعنى آخر يصبح خفض نسبة الخطأ الرقمي BER مكلفة للغاية من ناحية قوة الإشارة.
ظل الوضع على هذه الحال حتى اكتشف كلاود بيرو في عام 1991 طريقة خرافية عبقرية لتكويد المعلومات المرسلة قادرة على خفض تكلفة نسبة الخطأ الرقمي!
قام كلاود بيرو بتسجيل إكتشافه الجديد على شكل براءة إختراع. ولكنه عندما أراد نشر اكتشافه تعرض البحث العلمي للرفض من قبل المراجعين الذين لم يفهموا طبيعة عمل هذه الأكواد. وعلى خلاف ما يجب على المراجع القيام به: البحث والتقصي حول الورقة العلمية المكلف بمراجعتها اختار المراجعون الطريق الأيسر وقاموا برفض البحث العلمي. جرب كلاود بيرو مرة أخرى ولكن قوبل بحثه مرة جديدة بالرفض. في المرة الثالثة وبعد إصرار من بيرو على نشر بحثه تحجج المراجعون بأن البحث لا يستوفي العدد اللازم من الصفحات التي تطلبها المقالة. فما كان من بيرو الى أن وسع البحث بإضافة السيرة الذاتية لباحثين أخر أصدقاء له بجانب سيرته الذاتية. كانت الغاية من هذا الفعل مجرد ملء الفراغ المتذرع به من قبل المراجعين!
عند نشر الورقة البحثية إنتشر خبرها كالنار في الهشيم بين باحثي الوسط العلمي ولا يكاد يخلو اليوم جهاز تواصل راديوي (موبايل, قمر صناعي, وصلة مايكرويف… إلخ.) لا يستخدم هذه الأكواد. في الواقع هذه الأكواد الآن تقوم بممارسة عملها وأنت تقرأ هذه المقالة. فشكرا لك كلاود بيرو على إصرارك وكفاحك!
المصادر :
[1] https://mathshistory.st-andrews.ac.uk/Biographies/Galois/[2] https://www.storyofmathematics.com/19th_galois.html
[3] Error Control Coding: Fundamentals and Applications, D. Costello and S. Lin
[4] Near Shannon limit error-correcting coding and decoding: Turbo-codes. 1
June 1993 DOI: 10.1109/ICC.1993.397441 SourceIEEE Xplore Conference: Communications, 1993. ICC 93. Geneva. Technical Program, Conference Record, IEEE International Conference onVolume: 2
[5] http://people.math.harvard.edu/~ctm/home/text/others/shannon/entropy/entropy.pdf