أين الإنسانية من هذا البؤس! 821 مليون جائع ونسب مرتفعة من الأغذية المهدورة.
أين الإنسانية من هذا البؤس!
821 مليون جائع ونسب مرتفعة من الأغذية المهدورة…
قد يتساءل بعضنا؛ أين الله من هذا الجوع؟ خاصة وأن عددَ الجياع في العالم آخذ في الارتفاع، حيث بلغ 821 مليون شخص، أو واحد من بين كل تسعة أشخاص (في آسيا: 515 مليون، في أفريقيا: 256.5 مليون، في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: 39 مليون)، وذلك وفقًا لتقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم لعام 2018، وهناك الملايين من البشر يموتون بالفعل كل عام نتيجةً للجوع، من بينهم 6 ملايين طفل دونَ سن الخامسة، وعلى ذلك؛ نرى البعض يعتبر هذا السؤال مشروعًا ويستلزم الرد، والجواب في قول الله تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، (النحل 118))
1- التبذير: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، (الإسراء 127))
- هناك قلة قليلة نسبيًا ممن يعَدُّون ضحايا المجاعات التي تجتذبُ العناوين الرئيسية في الصحف والنشرات المصورة والمعونة الخاصة بحالات الطوارئ، ولكن هناك ملايين غيرُهم أكثر بكثير يموتون دونَ أن يُلاحِظهم أحد، إذ تقتلُهم تأثيرات الجوع وسوء التغذية المزمنَيْن نتيجة فقدانِ الأغذية أو تبذيرها. والذي يُعبَّر عنه من الناحية العملية، بأيِّ غذاءٍ يتم حرقُه أو التخلصُ منه بطريقة أخرى على طول سلسلةِ الإمداد الغذائي، بدءًا منَ الحصادِ والذبح والصيد، ويُستثنى منه مستوى البيعِ بالتجزئة، وأيضًا ما لا يدخلُ من جديدٍ في أي استخدام إنتاجي آخرَ مثل البذورِ.
يطرح (جوزيف كولينز وفرانسيس مور لابيه) في كتابِهما (صناعة الجوع) سؤالًا جوهريًا؛ أين ذهب كلُّ الغذاء في العديد من البلدان؟ مع العلمِ أن الاستثماراتِ الرأسماليةِ الضخمة التي خُصصَت لتحديثِ الإنتاج قد أدت إلى زيادةِ فعالية محاصيلِ كثيرٍ من الزُّرّاع الميسورين، لكن ماذا حدث لأغلبية الإنتاج الزائد؟ كانت الإجابة على الشكل الآتي… حيث يذكران بعض الأسباب:
1/ يُحوَّل بعض الإنتاج إلى منتجاتِ ترفيهٍ، لا يقدِر على شرائها الفقراءُ، وخيرُ مثالٍ على ذلك تعاون حكومتَي الولايات المتحدة والباكستان معَ شركةِ كورن برودكتس لشراءِ الذرة الباكستانية – وهيَ الغذاءُ الأساسي للشعب – لتصنيعِ أشياءَ مثل المشروبات الغازية.
2/ يُستخدَم بعضه غذاءً للماشيةِ لإنتاجِ اللحمِ الذي لا تقدِرُ على شرائه أغلبيةُ السكانِ المحليِّين، ففي عام ١٩٧١، كان ثُلُثَا أرُزِّ الثورةِ الخضراء في كولومبيا يذهبُ لإطعام الماشية أو لإنتاج البيرة، وأتاحتْ زيادةُ محاصيلِ الأرز المادةَ الخامَ لبدءِ صناعةِ تسمين الدواجن. فهل يعني هذا أن من يعانون من سوء التغذية في كولومبيا سيأكلون الدواجن؟ بالنسبةِ لأكثرِ من رُبُعِ عائلات البلاد، تتساوى قيمةُ شراءِ رطلَيْن من الدواجن مع شراءِ غذاءٍ من نوعٍ آخر لأسبوعين.
3/ يُلقى بعضه ببساطةٍ إلى القمامة، فالفواكهُ والخضراوات المنتجةُ في أمريكا الوسطى للتصديرِ إلى الولايات المتحدة تُمنعُ في كثيرٍ من الأحيان من دخولِ سوقٍ مشبعٍ أو تفشلُ في تحقيقِ معاييرِ الولايات المتحدة في (النوعية) -الحجمِ واللون والنعومة. ولما كان السكانُ المحليُّون ومعظمهم معدَمُون، أفقرَ من أن يشتروا أيَّ شيء، فإن ما يبلغ ٦٥ في المئة من الفواكه والخضراوات المنتَجَة، لابد من إلقائِها في القمامة بالمعنى الحرفيِّ للكلمة.
2- قلةُ احترام نعمة الله وعدمُ المحافظة عليها: من المنشأِ إلى المائدة.
أشارت منظمةُ الأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن معدلَ الهدرِ العالمي من اللحومِ يبلغُ سنويًا 20 بالمئة من الإنتاج، أما معدلُ الأسماك والمأكولات البحرية فيبلغ نحوَ 35 بالمئة، كما يهدرُ سكان العالم نحو 30 بالمئة من إنتاج الحبوب. لكنَّ مستوى الهدر الأكبرِ يقعُ في حقل الخضراوات والفاكهة، ويبلغ نحو 45 في المئة من إجماليِّ المحاصيلِ المنتَجَة. وفي عام 2011، قدمتِ المنظمةُ تقريرًا بأنَّ حوالَيْ ثُلُثِ الأغذية في العالم يُفقَد أو يُهدَر كلَّ عام.
رُغمَ أن أميركا وأوروبا تنتجان ثلاثةَ أضعافِ حاجتِهما من الطعام، إلا أن ثُلُثَه يُهدَر خلالَ عملياتِ التحضير بين جَنْيِهِ من المزرعة ووضعه على المائدة، والثلثُ الباقي يُحوَّل لإطعام المواشي المنتِجَة للحومِ. ويُقدَّر أن ما بين 20% إلى40% من الفواكه في أوروبا وأميركا تُرفَض حتى قبلَ دخولِها المتاجر لأنَها لا تتطابق من حيث الحجم واللون والمظهر شروطُها الخاصةَ مع إغراء الزبائن (فالطماطمُ مثلًا يجب أن تتمتعَ بلون أحمرَ داكن، وألا تقِلَّ عن حجم معين، وأن تملِكَ ورقتَين خضراوَين على رأسها). أما في البحر، فيتم التخلصُ من40 إلى 60% من الأسماك التي يتم اصطيادُها، إما لأنها غيرُ مناسبة في نوعها وحجمها أو لعدم حاجة السوق لها. الأمر الذي تسبَّبَ جديًا في إفراغ بعض البحار من كائناتِها. وعليه مع سوء استخدام الموارد غيرِ المحققة للمواصفات، تخيلْ كم ستطعِمُ هذه المواردُ من فقراءٍ؟
- الجشع: لنربحْ، وليمُتِ الناس جوعًا
نشرت صحيفة وول ستريت مقالًا جاء فيه أن وفرةَ الحليب الهائلةَ دفعتْ مزارعي الألبانِ إلى التخلص من 43 مليون جالونٍ من الحليب، وقد ألقى المزارعون اللبنَ في الحقول وبحيراتِ السماد أو استخدموه علفًا للحيوانات. في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2016، حيث لا يمكنُ للشاحنات نقلُ الحليبِ إلى مرافِقِ المعالجة، وحتى لو أمكن ذلك، فلا يمكن شراؤه والدفعُ مقابِلَه، لأن زيادةَ المعروضِ من الحليب تضع عبئًا على مقدار ما يمكنهم بيعُه مقابلَه. ووفقًا لصحيفة وول ستريت، التي استشهدت ببياناتٍ من وزارة الزراعة الأمريكية، فإن الكميةَ الهائلةَ من الحليب التي تكفي لملء 66 حمامَ سباحةٍ أولمبي هي الأكثرُ هدرًا على الأقل خلال الـ 16 عامًا الماضية. وقد جاءت هذه التصرفاتُ ردًا على تراجعِ أرباح مزارعي الألبان، إذ انخفضتْ بنحو 35٪ خلال العامَين الماضيَين.
أما اليومَ، وبسبب الفيروسِ التاجي (كورونا)، يستعدُ مزارعو الألبان في كندا لإلقاء ملايينِ اللتراتِ من الحليب، للحفاظ على استقرار الأسعار ومنعِ زيادة العرض (نظرًا لأن زيادةَ المعروض تؤدي إلى خفضِ الأسعار)، وقد طُلِب من حوالي 500 مزرعة إلقاءُ 5 ملايين لتر في الأسبوع، وفقًا لتقريرٍ تجاري. حيث تنتِج مقاطعةُ أونتاريو حوالي 3 مليار لتر من الحليب سنويًا، أو حوالي ثلثِ إجمالي المعروضِ من كندا. كما طلب مزارعو الألبان في نيوفاوندلاند ولابرادور – رابطة ألبان إقليمية أخرى- من المزارعين التخلصَ من 170 ألف لتر. تنتج المحافظة حوالي 50 مليون لتر في السنة، حيث يتم إنتاجُ منتجات الألبان الكندية في ظلِّ ما يُعرَف بنظامِ إدارة العرض، والذي يتحكمُ بشكلٍ صارم في حِصَص الإنتاج والواردات لدعم الأسعار. ويأمل مزارعو الألبان في أونتاريو من هذا التصرفِ (التخلصِ من مادة الحليب)، أن تتمَّ الموازنة بين العرض والطلب ليظلَّ السعر مستقرًا. ولم تؤكد المجموعةُ كميةَ الحليب التي يطلبون من المزارعين التخلصَ منها، لكنها تقولُ إنها ستتمُّ على أساس “الاختيارِ والتناوب”.
هل ما زلت تعتقد أن الله هو من يريدُ بؤس الناس وأن مسؤولي الإنسانية يقدمون المعوناتِ الغذائيةَ للفقراء؟
4-المعونة الغذائية: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، (البقرة 263))
في المقابل، نرى ممثلي الإنسانيةِ يقومون بتوزيع المعونات والأغذية، فما هذا التناقض الواضح؟ وما السبب وراء توزيع هذه الأغذية، وهل يحصل الجميع على هذه الإعانات؟
في مثل هذا النظام القائم، سيتحقق الربحُ الأكبر دائمًا من تلبية مطالب وإنجاز أعمال أولئك الذين يمكنهم دفع أكبر ثمن – وليس الجوعى، وإليك ما نقصده، من الولايات المتحدة:
تاريخيًا، كانت الولايات المتحدة أكبرَ مانحٍ للمعونة الغذائية. فمنذ عام 1950، قدمت مليارات الدولارات من المعونة الغذائية، لكن هدفَها الأول لم يكن في أي وقت من الأوقات إطعامَ الجياع. في الواقع، كانت المعونةُ الغذائية امتدادًا للسياسةِ الخارجية والمصالح التجارية للولايات المتحدة، وهما في معظمِ الحالات أمران متبادلا النفع.
لفهم أصول المعونة الغذائية، ليس عليك أن تنظرَ إلى أبعدَ من حوارٍ مع منسقِ المعونة الغذائية في إدارة فورد، وهو “روبرت ر. سبيتزرين”، الذي صرح أن “الحكومة الامريكية” ربما استطاعت عن طريق تقديمِ بعض هذه الأغذية بحكمةٍ إلى بلدان معينة، تطويرَ مشترين للسلع المستقبلية. وتناول “سبيتزر” كلَّ دوافعِ المعونة الغذائية تقريبًا: اهتمامُ المزارعين بالتخلص من الفائض الذي يمكن أن يخفضَ الأسعار، واهتمامُ الشركات الزراعية بخلقِ أسواقٍ، وإمكانيةُ جعلِ الغذاء سلاحًا في ضمانِ الوصول إلى المواد الاستراتيجية. والدافعُ الوحيد الذي أغفلَ ذكرَه هو استخدامُ المعونةِ الغذائية لدعم تدخُّلِ الولايات المتحدة العسكريِّ، وهو إحدى وظائفِها الرئيسة خلالَ حرب فيتنام.
إن الاستخدامَ السياسي والعسكري للمعونة الغذائية للولايات المتحدة ليس شيئًا جديدًا، ففي هذا القرن بعد الحربِ العالمية الأولى مباشرةً، وضع هربرت هوفر – الذي أصبح رئيسًا – تأييدَه لمساندة برنامجِ معونة غذائية لألمانيا لتجنب خطرِ أن يصوت الألمان الجائعون للاشتراكيين (وكذلك لحل مشكلةِ فائضِ الغذاء الأمريكي الناشئة عن الجهد الزراعي زمن الحرب). كما ذهبت المعونة الغذائية الأمريكية إلى القرى الفاشيةِ في اليونان، وإلى شيانج كاي شيك في الصين. ولم تتلقَ الهند أيةَ مساعدةٍ في أعقاب مجاعة عام ١٩٤٣ الكبرى التي مات خلالها ٤ ملايين هندي، ولا في مجاعة عام ١٩٤٦ – 1947، فالهند في ذلك الوقت، لم تكن مؤهلةً لتكون منطقةً أمامية مناهِضةً للشيوعية طبقًا لوزيرِ الخارجية دين اتشيسون. بعد الحرب العالمية الثانية، أُنفِقَ أكثرُ من ربع أموال الولايات المتحدة للمعونة الغذائية في إطار خطة مارشال. وتدفقَت كمياتٌ هائلةٌ من القمح المُبَاعِ بالأجَلِ إلى إيطاليا وفرنسا لتساعدَ في منعِ الطبقة العاملة البائسة من التصويتِ ضدَ الرأسمالية. وقال مارشال نفسُه في ذلك الحين: “الغذاء عاملٌ حيوي في سياستِنا الخارجية”.
في عام ١٩٥٩ انتقد السناتور “هيوبرت همفري” أولئك الذين يريدون أن تكون المعونة الغذائية مجردَ وسيلةٍ للتخلصِ من الفائض، ورأى في الغذاء سلاحًا سياسيًا قويًا: لما قد قيل لنا أن الصين وفيتنام الشمالية، وكوريا الشمالية هي “قوى الشر”، كان من الطبيعيِّ أن تذهبَ معظم معونتُنا الغذائيةُ إلى البلدان اﻟﻤﺠاورة: الهند، فيتنام الجنوبية خلال حرب فيتنام وكمبوديا، كوريا الجنوبية وتايوان. وبحلول عام ١٩٧٣، كان نحوُ نصفِ المعونةِ الغذائية الأمريكية يذهب إلى فيتنام الجنوبية وكمبوديا. وفي ما بين عامَي ١٩٦٨ و١٩٧٣، تلقَّت فيتنام الجنوبية وحدُها عشرينَ ضعفِ قيمةِ المعونة الغذائية التي تلقتْها الدولُ الأفريقية الخمسُ الأشدُّ تضررًا بالجفافِ خلال نفس الفترة.
كذلك قد يكون سحبُ المعونة الغذائية سلاحًا سياسيًا قويًا، فقد قُطِعَت المعونةُ عن تشيلي فجأةً عندما انْتُخِبَتْ حكومةٌ تهددُ مصالحَ الشركاتِ الأمريكية، ولأن صانعي السياسةِ الأمريكيين يرَون في المعونة الغذائيةِ سلاحًا سياسيًا، فإنهم لا يريدون المساهمةَ بالغذاء في الوكالات الدولية عندما يكون استخدامُه فيها أقلَّ خضوعًا لسيطرتهم.
لا يختلفُ اليومُ عن الأمسِ، ولكن ربما اختلفتِ التسمياتُ فقط (الإنسانية) و(النوايا الخفية) لحكومات العالم، فما كان تُستخدمُ الجيوشِ والعتادِ العسكري لتحصيلِه، تغيَّرَ ليصبحَ التجويعُ واستغلالُ المنح الغذائية مسألة أبسطَ لتحقيقِ الغاياتِ نفسِها،
هنا يحقُّ لنا أن نتساءلَ؛ أين الإنسانيةُ من هذا البؤس؟