الأمانة العِلميّة بين الحضارتين الإسلامية والغَرْبية
الأمانة العِلميّة بين الحضارتين؛ الإسلامية والغَرْبية
ظَهَرَ مَبدأ الأمانةِ العِلميّة بعد ظهور الإسلام، ففِي غيابِ الدِّين والخُلُق لَن يتردّد الإنسان في نِسْبة أعمالِ الآخرين لَهُ لِيكسب شهرةً ورِبحًا لِنفسه، فالأمانة العِلمية تُوجِبُ احترام الحُقوق الفِكريّة والعِلمية، ونِسْبَةَ الجُهد والاِكتشاف لِصاحبِهِ وأهلِهِ، إلّا أنّ عُلَماء المُسلمين عانَوا كَثِيرًا مِن سَرِقَةِ أبحاثهم واكتِشافاتِهم، ونِسبَتِها إلى غيرِهم مِن عُلَماءِ الغرب مِمن وُلِدوا بعدهم.
فَفِي الوقتِ الحاضِرِ لا تخفى علينا تلك السّرِقة الشّنيعة التي حَدَثَت لِمَجهودات عُلَمائنا، حيث تَمّت نِسبَةُ الأعمَال والاختراعات والاكتشافات التي قام بِها عُلَماء المُسلِمين إلى عُلَماء غربيين.
———————————————-
– بعضُ نماذج السّرقة التي حَدَثَت لِمَجهودات عُلَمائنا:
1) ابن النفيس مُكتشف الدَّورة الدَّمَوِية الصُّغرى الذي قام بِتسجيلها بِدِقّة في كتابه شرح تشريح القانون،
نُسِبَت بعد ثلاثة قرون لِلطبِيب الإنجليزي ويليام هارفي ونَسَبَها البَعضُ لِسيلبيتوس (سيرفيتوس)، وعلى إثْرِ ذلك عَلّق المُستشرق الألماني مايرهوف (ت1945م) قائلًا: ((إنّ ما أذهلني هو مُشابهةُ لا بَل مُماثلةُ بعض الجُمَلِ الأساسِيّة في كلماتِ سيرفيتوس لِأقوالِ ابن النفيس التي تُرجِمت تَرجَمة حَرْفِية… أيْ أنّ سيرفيتوس قد ذَكَر الدَّورة الدّموية في الرِّئة بِلُغَةِ ابن النّفيس الذي عاش قَبْلَه بِمَا يَزيد على قرن ونصف)).
ثُمَّ أخبر مايرهوف حَقيقَةَ ما كشَفه مِن جُهودِ ابن النَّفيس وكذِبِ وادِّعاءِ العالِمَين هارفي وسيرفيتوس إلى المُؤرِّخ البلجيكي جورج سارتون فَنَشَر الأخير هذه الحَقيقة في كِتابه تاريخ العِلم، وعلَّق المُستشرق الإيطالي ألدو ميلي في كِتابه العِلم عِند العرب وأثره في تطور العِلم العالَمي قائلًا: ((إن لابن النفيس وصفًا لِلدّوران الصَّغِير تَتطابِقُ كلِماتُهُ مع كلماتِ سيرفيتوس تمامًا، وهكذا فمِن الحقّ الصّريح أن يُنسَب اكتشاف الدَّوران الرِّئوي إلى ابن النفيس لا إلى سيرفيتوس أو هارفي)).
وإنّ مِثلَ هذه السَّرقات وانعدامِ مَبدأ الأمانة العِلمية في حَقّ العُلَماء المُسلِمين ليست بالشَّيء القليل.
2) وقد وُجِد في إحدى كُتُبِ روجر بيكون فصلٌ كاملٌ ما هو إلا تَرجَمَةٌ حَرْفية لِكتاب المناظر لابن الهيثم، وذلك دون أن يُشير بتاتًا إلى المُؤلِّف الأصلِي لِلمادّة.
ويُعَدّ روجر فيلسوفًا وعالِمًا إنجليزيًّا، عُرف في الغَرب بِصِفته مُؤسِّسًا لِلعُلُوم التّجريبية وأحَدَ رُوّاد عِلمِ البصَرِيات.
3) وكذلك نُسِبَت قوانين الحَرَكة لإسحاق نيوتن بينما الذي اكتَشف هذه القوانينَ هُما ابن سينا وابن ملكا.
لقد حدث كُلُّ ذلك مَع المُسلِمين، أما المُسلِمون فقد كانوا يَحترِمون مَبدأ الأمانة العِلميّة ونِسبَة الفَضلِ والجُهدِ لأهله، وهو المَنهجُ الذي لَم يجعل عالِمًا مِنهم يَدّعي اكتشافًا أو سبقًا عِلمِيًّا نَقلَه مِن عالِمٍ آخرَ مِن عُلماء الحضارات الأخرى، بل امتَلأت كُتُبهُم بأسماءِ الذين نَقلوا عنهم مِثل أبقراط وجالينوس وغيرهم، وقد أنزلوهم مَنزلتهم، وأعطوهم التّقدير اللازم، ولم يكن يُغفَل عن اسم الواحد مِنهم ولو كان إسهامُه في الكتاب قليلًا.
———————————————-
– نماذج تَدُل على الأمانة العِلمية لدى العُلَماء المُسلِمين على سبيل المثال:
1) ذكَر بنو شاكر في كِتابهم معرفة الأشكال البسيطة والكروية ما نَصُّهُ: ((فكل ما وصفنا في كتابنا فإنه مِن عَمَلنا، إلا معرفةَ المُحيط مِن القطر فإنه مِن عمل أرشميدس توفي سنة 212 ق م، يُعَدّ مِن أعظم عُلَماء الرّياضيات في العُصور القديمة ويُعتبر أبا الهَندسة، وإلّا مَعرفةُ وضْعِ مِقدارين بين مِقدارين لتتوالى على نسبةٍ واحدة فإنّه مِن عمل مانالاوس، مِن أعلام الهندسة اليونانيين، عاش خلال القرن الميلادي الأوّل)).
2) وكذلك يَقول أبو بكر الرّازي صاحِب كتابِ الحاوي ما نصُّهُ: ((ولقد جمعتُ في كتابي هذا جملًا وعيونًا مِن صناعة الطّب مما استخرجته مِن كُتُب أبقراط وجالينوس وأرماسوس… ومَن دونهم مِن قدماءِ فلاسفةِ الأطباء، ومَن بعدهم مثل بولس وآهرون وحنين بن إسحاق ويحيى بن ماسويه وغيرهم)).
3) وفوق هذا تجد في المَكتبة الإسلامية كُتُبَ العلَماءِ الأجانِبِ مُتَرجَمةً في نُسَخٍ مُنفصلةٍ مَنسوبةٍ لأصحابِها، وكان كثيرًا ما يقوم عالمٌ مِن عُلَماء المُسلِمين بالتعليق عليها دون أن يتدخل في متْنِهَا لكي يحافِظ على فِكرَة المؤلِّف دون تحريف، مِثل تعليق العالِم المُسلِم الفارابي على كتابِ ما بعد الطبيعة لأرسطو.
———————————————-
الخاتمة :
هذه الأمانة العِلمِية المُشَرِّفة كانت مِن أعظم مناقبِ عُلَماء المُسلِمين، ومِن أهَمِّ الأسُسِ التي غَيَّر بها المسلمون نَمَطَ وطريقةَ تفكيرِ العُلَماءِ السّابقين، وخاصَّة أنّ المُعاصِرين مِن أبناء الأمَم الأخرى لم يَكُونُوا يعرفون تاريخ أجدادِهم، وبالتالي فقد كان مِن السّهل جِدًّا أن تُسرَق أبحاثهم، ولكنّ البُعد الأخلاقِي العميق عِند عُلَماءِ المُسلِمين مَنَعهم مِن فعل ذلك وهذا الأمر الذي فقده الغربيّون في تعامُلِهم مع أعمالِ المُسلِمين عندما يَنسِبونها لأنفسهم وهو الفارق بيْن علمائهم وعُلَماء المُسلِمين.
———————————————-
المَصادر:
* عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج1 ص70 لابن أبي أصيبعة
* رواد عِلم الطبّ في الحضارة الإسلامية ص451، لعلي عبد الله الدفاع
* تطور الفكر العِلمي عند المُسلِمين ص208، لمحمد الصادق عفيفي
* ماذا قدم المسلمون للعالم ج1 ص185 ، لراغب السرجاني