الدولة العثمانية وحقيقتها من ناحية الحضارة والعلم
عندما نبحث عن خلفية المهاجمين على الدولة العثمانية، نراهم غالبا إما قوميين أو علمانيين أو ملحدين. بالطبع، فمن غيرهم سيمتعض من فكرة نجاح النموذج الإسلامي في الحكم؟ ومن غيرهم سيحارب العلم والحضارة الذي يقدمه أي نموذج إسلامي للعالم؟
الدولة العثمانية بعيداً عن تشويههم، هذا ما سنراه في هذا المقال بإذن الله.
خرائط بيري ريّس، واكتشافه لأميركا والقطب الجنوبي قبل الجميع.
“اكتشاف خارق للعادة”، هذا ما وصفت به جامعة جورج تاون الأمريكية خرائط (بيري ريس) قائد الأسطول العثماني في البحر المتوسط والخليج، حيث ظهرت في خرائطه -وبكل وضوح- سواحل القارة الأمريكية، وكان هذا عام 1513 م، حين أنهى أول خريطة له.
وخريطته الثانية قدمها عام 1528 م للعالم، ويضم القسمُ الذي وصلنا منها الجزءَ الشماليَّ من المحيط الأطلسي، وشواطئ الشمال في أمريكا الشمالية من جرينلاند حتى شبه جزيرة فلوريدا، وأهم ما يميز تلك الخريطة أن الجزر وبعض الشواطئ رسمت بشكل يقرب للواقع مقارنة بالخريطة الأولى.
وأهم ما وضعه بيري رئيس كان “كتاب بحرية” الذي ألفه عام (1520 م، 927 هـ)، ثم قام بتوسيعه عام (1525 م، 932 هـ)، ثم قدمه للسلطان العثماني آنذاك (سليمان القانوني).
حيث نذكر أيضًا أن كولومبوس نفسه قال في إحدى مخطوطاته أنه رأى “آثار إفريقية” عندما وصل أمريكا، وهذا يدعم قولًا تاريخيًا آخر بأن (أبا بكر الثاني) الذي حكم إمبراطورية مالي اكتشف أمريكا قبل كولوموبس بمئتي عام.
ويقول العالم الفرنسي (لاروش) في موسوعته التي نشرها عام 1963 م: (إن بيري كتب عن كروية الأرض قبل رحلة (ماجلان)، ورسم خرائط لأمريكا، وإن هذا أمر يعلو ويتفوق كثيرًا على علم الجغرافيا في ذلك القرن وعلى علم الجغرافيا لدى الغربيين).
خريطة العالم المذهلة التي رسمها الريس ويظهر فيها سواحل القارتين الأمريكتين والقارة القطبية الجنوبية
العثمانيون يكتشفون وجود الجراثيم والميكروبات
“الشيخ آق شمس الدين” والذي يلقّب بالفاتح المعنوي لاسطنبول، ولد في دمشق وحفظ القرآن وهو ابن 7 أعوام، وهو الذي علّم السلطان محمد الفاتح القرآن، والفقه، والرياضيات، والفلك، والتاريخ.
اهتمّ أيضًا بعلم النباتات، والطب، والصيدلة، ومن كتبه: مادة الحياة، وكتاب الطب.
ونقتبس منها:
“من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الأشخاص تلقائيًّا، فالأمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى. هذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذه العدوى تحصل بواسطة بذور حية صغيرة”.
وهذا تعريف واضح للمكروب قبل لويس باستور بأربع قرون.
محاولات للطيران والطيران النفاث.
الرحالة والعالم العثماني الشهير (أوليا جلبي) الذي ذهب في رحلة لمدة 44 سنة زار فيها 23 بلدًا يحدثنا عن شخص اسمه (لاجري حسين
جبلي)، وقف على مكان مرتفع في ميدان (أوق) بإستنبول مرتديًا أجنحة من ريش النسر وذيلًا، وطار في اتجاه الريح في تجربة للطيران، وقد قام بهذا العمل ثمانيَ مرات، ثم صعد أخيرًا فوق برج (غالاطة) في العاصمة العثمانية، وطار من قمة البرج مع اتجاه الرياح التي حملته حتى نزل في ميدان (دوغانجلير) بحضور السلطان مراد الرابع الذي كافأه بكيس مملوء بالذهب.
ويحدثنا (أوليا) عن شخص آخر يدعى (حسن جلبي) ركب جهازًا، يمكننا وصفه بأنه أول صاروخ بدائي، ركبه وأشعل تلاميذه الفتيل، فاشتعل البارود في داخله، وصفر الصاروخ، وانطلق طائرًا في الجو وعليه أستاذهم، وعندما نفد البارود الموجود في الجهاز أفلته الأستاذ، وبسط جناحين من ريش النسر، وحاول الطيران بهما حتى سقط في البحر.
وانطلق السلطان -أيضًا- وراءه إلى شاطئ البحر، وكافأه بمرتب مقداره سبعون (أقجة).
المجمّع الطبّي العثماني
تم إنشاء أول جامعة للطب عند العثمانيين في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، سموها (دار الطب)، ثم تم إنشاء المجمع الطبي في القرن الخامس عشر، ومن رواده (شرف الدين الصابونجي الأماسي) العالم في الأدوات الجراحية والمطوّر لها، و(داود الأنطاكي) المعروف بالرئيس الضرير، وصاحب الدراسات عن المخ والكتاب الشهير (تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب) حول الأدوية الطبيعية، وطبيب التوليد الشهير (عياشلي شعبان)، والعالم النفساني (مؤمن السينوبي) الذي له كتاب مؤلف من 25 مجلدًا حول الأمراض العقلية والنفسية والعصبية، وقد خصص العثمانيون مشافيَ خاصة لهذه الأمراض، في الوقت الذي كان الأوربيون فيه يحرقون المرضى العقليين والنفسيين بالنار؛ بحجة إخراج الشيطان منهم، بل واستمروا في ذلك حتى القرن الثامن عشر. يقول الدكتور الفرنسي (آبينج كرافت) في كتابه عن علم الأمراض العقلية الصادر في باريس سنة 1898: “إن أوروبا قد تعلمت من العثمانيين معالجة المصابين بالأمراض العقلية”.
الصناعة العثمانية
حتى عام 1700 م، كانت المدفعية العثمانية هي أقوى مدفعية في العالم بلا منازع، وقد صنع العثمانيون زمن محمد الفاتح (1432-1481 م) مدافعَ جبارة تستطيع خرق سور من الحجر سماكته 12 مترًا، واخترع العثمانيون المدافع المتحركة ومدافع الهاون، واستعملوها لأول مرة زمن سليم الأول. وكان هناك في الجيش العثماني الواحد ما لا يقل عن 12000 جمل؛ لجر المدافع الثقيلة جدًا.
أما صناعة السفن فقد كانت متقدمة أيضًا، وظل الأسطول العثماني حتى عام 1868 م ثالثَ أقوى أسطول في العالم بعد الأسطولين الإنكليزي والفرنسي.
يعتقد البعض أن الجيش العثماني كان مجموعة من الحفاة العراة الجوعى، ولكن هذه شهادة من الجنرال النمساوي (كونت فارسكلي) الذي أمضى حياته كلها في محاربة العثمانيين، فيها يقول: ((وصل التنظيم الاقتصادي العثماني إلى درجة عالية، بحيث لم يكن يعادلها نظير في الحكومات (الغربية) .. من أسباب القدرة على الحركة العسكرية الموفقة للجيش العثماني هي جودة الأطعمة، وعنايتهم بالحيوانات، وهذه كلها أكثر دقة مما هي عليه عندنا، وهي أكثر جودة في التنظيم…)) (العثمانيون في التاريخ والحضارة – د. محمد حرب)
العمارة العثمانيّة
عندما نتكلّم عن العمارة العثمانيّة نذكر مباشرة المعماري الداهية (معمار سنان آغا)، عاش في القرن العاشر الهجري،
في أوج العصر الذهبي للعمارة العثمانية، وكان رئيس المعماريين وأشهرهم خلال حكم السلاطين الأربعة: سليم الأول، وسليمان الأول، وسليم الثاني، ومراد الثالث.
ويقول عنه (هـ.كلوك) العالم الألماني وأستاذ تاريخ العمارة في جامعة فيينا: ((إن سنان يتفوق فنيًّا علي (مايكل أنجلو) صاحب أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية)).
يعتبر مسجد السليمانية أو سليمان القانوني من أهم أعمال (معمار سنان آغا)
وأخيرًا، إن هذه الإنجازات، وهذه الاختراعات لم تكن لتحصل لولا وقوف سلطة واعية خلفها، تمدها بالمال، وتفسح لها المجال للإبداع والمنافسة؛ فها هم علماء الغرب يعترفون بهذه الانجازات، صحيح أنه -ربما- بشكل متأخر، لكنها شهادة منهم على كل من يقيّم دولة الخلافة العثمانية من منظار أسود فقط، متجاهلًا هذه الصفحات المشرقة من تاريخها، مع العلم أننا اختصرنا كثيرًا، وهذا مقال مختصر عن حضارة العثمانيين وإنجازاتهم.
المراجع والمصادر والتجميع:
- كتاب الدولة العثمانية المجهولة، المؤلف أحمد آق كوندوز
- كتاب الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، المؤلف أكمل الدين إحسان أوغ
- https://www.uwgb.edu/dutchs/PSEUDOSC/PiriRies.HTM
- https://www.amazon.com/The-Piri-Reis-Map-1513/dp/0820321575
- https://dergiler.ankara.edu.tr/dergiler/19/821/10412.pdf
- https://www.e-perimetron.org/vol_8_2/lepore_et_al.pdf
- الدولة العثمانية المجهولة، 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية، أحمد آق گوندوز، سعيد أوزتورك، وقف البحوث العثمانية، 2008
- Winter, Frank H. (1992). “Who First Flew in a Rocket?”, Journal of the British Interplanetary Society 45 (July 1992), p. 275-80
- https://www.turkpress.co/node/13239
- https://syria-news.com/readnews.php?sy_seq=63199
- محمد حرب، العثمانيون في التاريخ والحضارة، دار القلم، دمشق، 1989م
- Ffoulkes, Charles, “The ‘Dardanelles’ Gun at the Tower”, Antiquarian Journal, Vol. 10 (1930), pp. 217–227
- https://www.math.nus.edu.sg/~mathelmr/gem-projects/maa/Geometry_of_War.pdf
- Schmidtchen (1977b), pp. 226–228