الضجيج الراديوي
لنعد بك في الزمن قليلًا إلى صيف عام 1997م. استيقظتُ من نومي باكرًا جدًا والأهل نيام، إذن، سأشاهد حلقة من “توم وجيري” قبل أن يستيقظوا، شغّلتُ التلفاز (الأنالوج)، لكن لا يوجد قنوات!! كل ما يظهر على الشاشة أمامي آلاف النقاط البيضاء والسوداء التي تتبدل فيما بينها بعشوائية، حاولتُ رفع الصوت قليلًا وكل ما سمعته هو “شششششششش”.
فاتتني حلقة “توم وجيري”، وظلّتْ صورة النقاط البيضاء والسوداء عالقة في ذهني.
وفي ربيع عام 2008 عرفتُ سبب هذه النقاط العشوائية، فالتلفزيونات الأنالوج تعمل باستخدام تقنية أنبوب الشعاع الكاثودي Cathode Ray [Tube [1،
ويحتوي الأنبوب على مدفعٍ موجِّهٍ يقوم بقذف آلاف الإلكترونات إلى واجهة فوسفورية وهّاجة phosphorescence، والشاشة الوهّاجة تقوم بامتصاص الإلكترونات المقذوفة وإصدار موجة ضوئية. وحسب قوة الإلكترون المقذوف واتجاهه تَصدُر موجات ضوئية بقوة ولون معيّنَين، وفي حال غياب إشارة بث (signal) كما حصل معي عند مشاهدة “توم وجيري”. يقول التفكير المنطقي: علينا ألا نرى شيئًا سوى سواد قاتم على الشاشة.
إذن، لماذا تظهر هذه النُّقَط العشوائية؟
إنه الضجيج الراديوي.
إذ إنه رغم عدم استقبال أيّة إشارة حقيقية، فإنّ جهاز الاستقبال في التلفاز ما زال يستقبل نوعا خفيًّا من الإشارات الضارة التي اصطُلح على تسميتها ب”الضجيج الراديوي”، وتندمج هذه الإشارات الضارة مع الإشارة الحقيقية، لكن نظرًا لضعف قوتها فإن الإشارة الحقيقية المستقبَلة تطغى عليها، وتحد من ملاحظة تأثيرها، وفي حال غياب الإشارة الحقيقية تصبح هذه الإشارة الضجيجية واضحة للعيان.
السؤال الآن:
من أين تأتي هذه الموجة الضجيجية؟
هناك عدة مصادر لهذا الضجيج، بيد أن أهمها، وأكثرها تأثيرًا مصدران:
1- الضجيج الكوني cosmic noise [2] :
يحدث هذا الضجيج لأسباب كونية عدة منها:
أ- الانفجارات المجرية والنجمية: تُولّد هذه الانفجارات النووية موجات عالية السرعة تعرف بأشعة “غاما” مع الحركة السريعة المتباعدة للمجرات، وخضوعًا لمؤثر دوبلر (Doppler effect) الذي يوضح أن تباعد مصدر الموجة عن متلقي الموجة يؤدي إلى تطاول الموجة المستقبلة، وبناء عليه تتطاول موجات غاما المقذوفة من المجرات المتباعدة بسرعة، وما إن تصل إلى الأرض ينخفض ترددها بضع عشرات من الميغاهيرتز.
ب- قد يكون سبب الضجيج الكوني الانفجارات النووية على ظهر الشمس، فالانفجارات النووية الشمسية تُولّد طيفًا من الموجات منها: الموجات الراديوية والموجات الضوئية كما هو معلوم.
ج- وقد يكون سبب الضجيج الكوني هو اختراق الشهب لغلاف الأرض الجوي، فباختراقها للغلاف الجوي تحترق، وتتأيّن الغازات المحيطة بها مُصدرةً موجات راديوية.
2- الضجيج الحراري Thermal noise [3] : وهو الأكثر شهرة والمُعرّف في معادلة بولتزمان Boltzmann كالتالي: N= KT حيث إن
N: رمز الضجيج
K: ورمز ثابت بولتزمان
T: ورمز الحرارة بمقياس كالفن Kelvin
وكما تقول هذه المعادلة: إن ارتفاع حرارة الأجسام يُولّد ضجيجا راديويا، ولكن عن أية أجسام نتحدث؟
نحن نتحدث عن الإلكترونيات المتقدمة في جهاز الاستقبال front end electronics .
الآن بِتَّ تعرف سبب النقاط البيضاء والسوداء العشوائية على شاشة التلفاز، وستقول لي:
من يستعمل هذه الأجهزة اليوم؟
سأقول لك: إن تأثير الضجيج الراديوي يمتد إلى أكثر من النقاط العشوائية على شاشة تلفازك.
هل تساءلت يوما: لماذا يتشوش الاتصال الهاتفي عندما تنخفض قوة الإشارة المستقبَلة؟
ها قد بتَّ تعرف الإجابة!
مراجع:
[1] Fundamentals of digital communications, Upamanya Madhow, p. 87
[2] an introduction to analog and digital communications 2nded. Simon Hayken, p. 440-441
[3] The Invisible Universe – The Story Of Radio Astronomy, Gerrit Verschuur, p. 41