دور المسلمين في نشر وتطوير صناعة الورق
في ذي الحجة من عام 133 هـ الموافق لشهر يوليو من عام 751 م، وقعت معركة طلاس بين الدولة العباسية وإمبراطورية تانغ (الصين)، وسببها أنه وقع صراع بين إمارتي فرغانة والشاش بآسيا الوسطى، فاستنجد أمير فرغانة بإمبراطور الصين، والذي أمده بجيش بقيادة الجنرال الكوري قاو شيان تشي، فقاد هذا الأخير جيشه حتى حاصر إمارة الشاش، وأسر أميرها وقتله؛ فالتجأ حينها ابنه إلى دولة الخلافة، فلما بلغ الخبر أبا مسلم الخرساني؛ وجه إلى حرب الصين زياد بن صالح الحارثي. وفي سهل على مقربة من نهر طلاس الممتد حاليا في قيرغيزستان وكازاخستان، وقعت الوقعة بين الجيش الإسلامي يقوده زياد بن صالح، وجيش الصيني يقوده قاو شيان تشي، لتنتهي بانتصار ساحق ومهم للمسلمين.
كان من أهم ما أسفرت عنه هذه المعركة، أنها أوقفت توسع الصين السياسي والثقافي غربا بإتجاه آسيا الوسطى، وزاد الإسلام من انتشاره في هذه المنطقة، ولم يتوقف عند الحدود التي فرضتها معركة طلاس، بل تجاوزها، ودخل إلى الصين نفسها، وأصبح للمسلمين شأن فيها، حيث كانوا مسيطرين على التجارة هناك، كما كانوا مقربين من مراكز الحكم هناك لعدة قرون.
وما يستوقفنا في هذه المعركة، أمر مهم يعطي لهذه المعركة أهميتها ودورها وبعدها الحضاري، إذ أنه بعد المعركة؛ وجد المسلمون بين الجنود الأسرى عدداً من الذين كانت مهنتهم في الأساس صناعة الورق أو الكاغذ وصقله وتجهيزه، فنقلوا هذه الصناعة إلى العالم الإسلامي، وأُنشأ أول مصنع للورق في العالم الإسلامي بسمرقند. والجدير بالذكر أن الورق يعد اختراعا صينيا عرفه الصينيون منذ عام 105 م في عهد أسرة هان على يد موظف يعمل في البلاط الملكي، يدعى تساي لون، والذي يرجع له الفضل في هذا الإختراع.
ازدهرت صناعة الورق في عهد الخليفة هارون الرشيد، حيت كان للفضل بن يحيى البرمكي الفضل في تأسيس أول مصنع للورق في بغداد حوالي سنة 178 هـ/794 م، وبدأ استخدام الورق في دواوين الدولة. وطور المسلمون هذه الصناعة، حيت أنتجوا أنواعاً جديدة من الورق، مثل ورق الحرير، وورق الكتابة، والورق المقوى وغير المقوى والورق الناعم والخشن والأبيض والملون. وهكذا، وخلال فترة زمنية محدودة، حل الورق محل المواد الثمينة والمكلفة، كجلود الرَّق والبردي. وقد أدى اتساع صناعة الورق إلى ازدهار مهن أخرى، كالصباغة وصناعة الحبر والنسخ والخط، كما استفاد العلماء أيضا من توافر الورق بنوعيات جيدة وبأسعار مناسبة.
وفي غضون مئتي سنة من أول إنتاج له في بغداد، انتشر الورق في مخلتلف أنحاء أنحاء العالم الإسلامي كغيره من السلع والمعارف، فوصل إلى الشام، ثم إلى مصر بحلول عام 800 م، ومنها انتقل إلى شمال إفريقيا، ثم إلى الأندلس نحو عام 950 م حيت التقط الأندلسيون هذه الصناعة، وسرعان ما اشتهرت مدينة شاطبة بصناعة الورق السميك اللماع، المعروف بالورق الشاطبي، الذي قال عنه الإدريسي في “نزهة المشتاق”: «ويعمل بها (أي شاطبة) من الكاغذ ما لا يوجد له نظير بمعمور الأرض، ويعم المشارق والمغارب».
وقد استفادت بلاد الشام كثيرا من مقدرتها على زراعة القنب، وهي نبتة ذات ألياف طويلة قوية، فكانت مادة جيدة لإنتاج ورق عالي الجودة، وبالإضافة إلى القنب، أدخل المسلمون الكتان مادة خام في صناعة الورق، وهو أسلوب جديد ابتكروه، كما جربوا مواد أخرى، فصنعوا الورق القطني.
عرفت أوروبا الغربية الورق عن طريق صقلية والأندلس، وكان أول استعمال أوروبي له هناك يعود إلى ملك صقلية روجر في عام 1102 م، كما يوجد أمر كتبته زوجته باليوناينة والعربية معاً في عام 1109 م، واستخدم الورق أول مرة في إيطاليا سنة 1154 م، وفي ألمانيا سنة 1228 م، وفي إنجلترا سنة 1309 م، واستعمل في القسطنطينية سنة 1100 م. وهكذا فقد تسارع انتشار المعرفة في أوروبا بفضل هذه الكتب الورقية الرخيصة والغير مكلفة.
أقيم أول مصنع للورق في أوروبا بإيطاليا عام 1276 م بمدينة فابريانو، وسرعان ما تبعه إنشاء مصانع أخرى، كمصنع في إيطاليا أيضا بمدينة بولونيا عام 1293 م. غير أنه توجد قصة أخرى تفيد بأن أول مصنع للورق بأوروبا أُسس بمدينة فيدالون الفرنسية سنة 1157 م، فتروي القصة أن شخصا يدعى جان مونغولفييه وقع أسيرا في يد المسلمين خلال الحملة الصليبية الثانية سنة 1147 م، فتم إجباره على العمل في مصنع للورق بدمشق، وهناك تعلم اسرار هذه الصناعة، فلما عاد إلى فرنسا أنشأ المصنع المذكور.
يقول المؤرخ الدانماركي يوهانز بيدرسن في “الكتاب العربي”: «صحيح أن الورق اخترع في الصين وليس في بلاد الإسلام، ولكن المسلمين استخدموا مواد جديدة سهلت تصنيعه على نطاق واسع، وابتكروا في ذالك أساليب حديثة أيضا، وبفعل ذلك؛ حقق المسلمون مأثرة ذات مغزى حاسم وأهمية كبرى، ليس لتاريخ الكتب الإسلامية فحسب، بل لعالم الكتب كله».
المصادر:
كتب عربية:
- عز الدين بن الأثير، “الكامل في التاريخ” (ج 5/ص 40)
- زكريا القزويني، “آثار البلاد وأخبار العباد” (ج 1/ ص 220)
- “ألف اختراع واختراع: التراث الإسلامي في عالمنا” (ص 136-137)
- الشريف الإدريسي، “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” (ج 2/ص 556)
كتب أجنبية:
- Amalia E. Gnanadesikan, “The Writing Revolution: Cuneiform to the Internet” (14, The Alphabet Meets the Machine)
- Marcia Moses, “Understanding Color: Creative Techniques in Watercolor” (p 4-5)
- Frederick Wong, “The Complete Calligrapher” (p 34-35)
- Allen Kent, Harold Lancour, Jay E. Daily, “Encyclopedia of Library and Information Science: Volume 21 – Oregon State System of Higher Education to Pennsylvania State University Libraries” (p 341)
- Johannes Pedersen, “The Arabic Book” (p 59)
رابط المنشور على صفحتنا
.