كرسبـر: أفق النور الجديد
كرسبـر: أفق النور الجديد
هل فكّرت يوماً في أن تسلسل الحمض النّووي الخاص بك، والذي يترتب عليه كل ما تبصره في نفسك من مظهر واستجابة، قد يخضع لعمليات تلاعبٍ من شأنها أن تقلب الأمور رأساً على عقب؟!
ما مدى تصورك لفكرة أن المستقبل يحمل في طيَّاته ما سيجعل بعض الأمراض التي تحصد اليوم ملايين الأرواحِ حول العالمِ والإنسانُ عاجزٌ أمامها رغم حثيث سعيه، تغدو بالنظر إلى بساطة علاجها في مقامِ الزكام؟!
أخيراً، هل جال في ذهنك أن واحدةً من أصغرِ مخلوقات الله التي لا ترى بالعين المجـرّدةِ ستفتح للبشريَّةِ نوافذ لتبصر النور من خلالِهـا؟!
هذا المقال سيضع بين أيديكم واحدةً من الثّورات العلمية التي أحدثت فارِقـاً في مجال الطب والعلاجِ الجيني.
بدأ الأمر حين لاحظ العالم الإسباني (فرانسِسكو موجِكا) في مطلعِ تسعينيات القرن الماضي، وجود منطقةٍ فيها تكرارٌ لتسلسلٍ معيّنٍ لبعض القطع «القواعد النيتروجينية» في الحمض النووي (لإحدى البكتريا)، ولم يكن معروفاً آنذاك ما وظيفتها أو حتى إمكانية قراءتها كشفرةٍ وراثية، وقام عالم هولندي بإِطلاق اسمٍ عليها عام 2002، وهوClustered Regularly Interspaced Short Palindromic) Repeats)، والذي يعني التكرارات العنقودية المتناوبة منتظمة التباعد، اتفق على اختصارها بـ ((CRISPR.
تم بعد هذا الاكتشاف بحثٌ طويل لما يقارب عشرين عاماً، توصلت فيه مجموعة من العلماء إلى أن هذه القطع موجودةٌ بالترتيب نفسه في الفيروسات التي سبق لها أن أصابت هذا النوع من البكتريا، وكانت المفاجأة حين وجدوا أن هذه البكتريا تقوم بتحطيم الحمض النووي المشابه في الفيروس حين عودته مجدداً، ويتم التعرف عليه بواسطة التسلسل السابق، مما يعمل كآلية دفاعٍ فعالة.
بدءاً بالكائنات وحيدة الخلية ومروراً بالنباتات والحيوانات وانتهاءً بالإنسان، وُجد تطبيق واسع لـ(كرسبر)، وقد كان كفيلاً بإحداث ثورةٍ في مجال الهندسة الجينية، والمعنية بتعديل بعض الصفات الوراثية المحمولة على الحمض النووي.
لكن، قبل الخوض في تطبيقات كرسبر يجب علينا أولاً أن نفهم ما هو وما آلية عمله!
يقوم كرسبر على ركيزتين أساسيتين، نبسطهما كالتالي:
A- Cas9:
وهو إنزيمُ قطعrestriction enzyme) ) يعمل كمقصٍّ كيميائي يقوم بقطعِ شريطِ الـ(DNA) في مكان معين حسب ترتيب القواعد النيتروجينية هناك، ومدى توافقها مع الرسالة الموكل بحملها.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الإنزيم هو أشهر إنزيم قطعٍ يستخدم في هذا النظام، ولكنه ليس الوحيد.
B- Guide RNA :
وهو حمض نووي يحمل تسلسلا معينا مماثلا للتسلسل الموجود في الفيروس.
إذن كيف يعمل؟!
الآن، بالرجوعِ إلى البكتريا فإنها حين تتعرض لهجومٍ بكتيري يتمثل في حقن الفيروس لمادته الوراثية، تتوجه هذه الأخيرة بدورها إلى الريبوسوم، لتبدأ بالتضاعف داخل البكتريا مما يؤدي إلى موتها، لكن ما يحصل في الحقيقة هو أن البكتريا تقوم بإفراز إنزيماتٍ مهمتها جمع القطعِ الخاصة بالمادة الفيروسية، وضمها إلى مادتها الوراثية بنفس تسلسلها في الفيروس، لكنها تكون ضمن فواصل توجد في نهايتها!
لاحقاً وحين تتعرض البكتريا لهجومٍ من الفيروس نفسه تقوم من فورها بتصنيع نسخ من هذا التسلسل على شكل ((Guide RNA ومهمته الارتباط بإنزيم قطع يسمى (Cas9) والذي يقوم بدوره بالبحث عن أي تسلسلٍ مشابهٍ للذي يحمله الـ (RNA) و يقوم من فوره حين يجده في حمض الفيروس بقطعه وتحطيمه.
والآن بعد فهمنا لمبدأ عمل كرسبر، نبدأ في الحديث عن الدور الذي لعبه في عالمِ الهندسة الوراثية والثورة التي أحدثها!
من خلال كرسبر سيتم القضاء على الكثير من الأمراض الوراثية وغير الوراثية، عن طريق قطع الجزء الذي يحمل تسلسل المرض في الحمض النووي، أو الجزء المتعرض للتلف أو الطفرة واستبداله بآخر سليم.
في الوقت ذاته، يمكننا استعماله للحصول على بعض الصفات المرغوبة في الكائنات، فعلى سبيل المثال: يذكر أنه بواسطة كرسبر تم إنتاج سلالات من النباتات مقاومة لآفاتٍ معينة، أو ذاتِ حجمٍ ومحصولٍ أكبر، وحالياً، يتم العمل على تعديل بعض أنواع البعوض في إفريقيا بحيث تفقد قدرتها على نقل المالاريا، ومحاولات أخرى في الصين لإنتاجِ خلايا دمٍ بيضاء تحقن في مريض السرطان حتى تقضي على الخلايا السرطانية.
لكن، هل يُعد كرسبر برَّ أمانٍ يُؤمن جانبه؟!
في الواقعِ، الإجابة: لا، للأسف!
هذه التقنية كغيرها، ربما ستغدو خطيرة إذا استعملت على غير وجهها الصحيح، تماماً كما فعلت الاستخدامات الخاطئةُ والمفرطة للمضادات الحيوية حين أنشأت لنا أنواعاً خطِرةً من البكتريا مقاومةً للعديد من الأمراض.
إن استغلال هذه التقنية دون الإحاطة بالآثار المترتبة عليها أو مراعاة شروط السلامة ربما يوقع البشرية تحت تأثير أمورٍ مروعة، ولعل أخطرها انتقالُ الجينات المُعدلة وراثياً في ظل عدمِ رغبتنا في ذلك، فمثلاً: قد صنع العلماء تسلسلاً بواسطة كرسبر من شأنه أن يسرع إصابة الفئران بسرطان الرئة، حتى يتمكنوا من ملاحظة التغيرات ودراستها وتجريب الأدوية عليها بسرعةٍ أكبر، وهذا في الحقيقة أمرٌ مدهش! لكن، ما الذي قد يحصل لو انتقل أحد هذه الجينات المعدلة إلى البشر؟!
أما على الصعيد الأخلاقي فقد أحدثت هذه التقنية جلبة كبيرة فيما يخص تطبيقها لتغيير صفات معينة في الإنسان وتعديلها لجينومه، أو التلاعب في جينات الأجنة حتى يحملوا صفات محددة، خصوصاً في ظل المعتقدات الدينية لدى الأفراد.
ونحنُ هنا نتحدثُ عن بشرٍ معدلين جينياً، أي أن أجيالاً ستحمل نتائج هذه التجارب دونما رجعة، لاسيما أن التقنية لم تثبت أمانها على المدى البعيد حتى اللحظة.
أضف إلى ذلك المخاوفَ الحقيقية من اختلال النظم البيئية كتحصيل حاصل لاستبدال كائناتٍ بأخرى تختلفُ جينياً.
ختامـاً، هذه التقنية تعيدنا إلى مربع الصنعِ الإلهي البديع، وتذكرنا أن أسرار الله قد تُودعُ في أصغر مخلوقاته.
وهذا فيديو مبسط للدكتور إسلام حسين لمعرفة المزيد :
إعداد: هبة الدقس
مراجعة: عبدالرءوف عمر
تدقيق لُغوي: كامل النبوي