ما هو الأوبونتو؟!
ما الأوبونتو؟
“الاحترام والشفقة أساسيان للآخرين، فالإنسان لا يكون إنسانًا إلّا مع الآخرين” حكمة في التراث الإفريقي تصف الوجود الإنساني.
من هنا كانت حياة الفرد في المجتمع الإفريقي قائمة علي الاعتماد المتبادل بين الفرد والمجتمع، والنجاح نتاجًا لهذا التعاون. ويصبح الفشل فشلًا للجميع. قيمة تتضمن “الكرامة، الرحمة، العمل الجاد، الصدق، التسامح، الكرم، التواضع والحب..” تحث على احترام إنسانيٍّ لكل البشر
ومن هذا المنطلق كانت ثقافة الأوبونتو.
ثقافة تدعو إلي السلام بين البشر جميعًا، وبين البشر وبيئتهم، وبين البشر والكون أجمع، لتحقيق تناغم كوني هادئ. وأصبح هذا المفهوم من أساليب منع النزاع، إذ يُقرّ بالذنب ويبدي الندم على ما ارتكبه من أخطاء ويطلب العفو ويقدم الدية أو العوض للتصالح والتعايش السلمي!
حسناً.. هذا شكل موجز لمنظومة العدل التقليدية التي مُورِست في “جنوب إفريقيا” والتي بسببها أُغلق باب حرب إبادة وأدت إلى الخروج من مذبحة مؤكدة.
يكون في بعض المجتمعات -للضبط الاجتماعي غير الرسمي وبخاصة الأعراف- سلطةٌ مؤثرة تفوق القانون الوضعي في بعض الأحيان.
ولإدراك ذلك أكثر، سنلقي الضوء سريعًا على أهم الأحداث التي شهدتها جنوب إفريقيا، بدايةً من الاستعمار الذي تحول فيه أصحاب الأرض إلى خدمٍ وعبيد عند الرجل الأبيض، الذي أصبحت له الأفضلية والسيادة. ومن هذا المعنى قُسِّم ما سواه إلى سودٍ وخِلاسيين وجُعلوا في مرتبة أدنى. ولم يعد لهم وزنٌ يُذكر، مقارنةً بالمستعمر الأبيض الذي يُمثل الأقلية.
قاومت فيه قبيلة الزولو -أكبر تجمع سكاني في جنوب إفريقيا- وخاضت العديد من الصراعات ضد سياسات الفصل العنصري، الذي هو سمة الاحتلال البريطاني، وعانت من الطرد للمناطق النائية والقاحلة، فقد اتبع نظام الفصل العنصري عدة سياسات منها:
إصدار قانون الأرض 1913 الذي يسلبهم حق امتلاك الأراضي في مناطق البيض التي تُقدر بنحو 87٪ من أراضي جنوب إفريقيا!
منع الأفارقة من وراثة الأرض.
حدد العمل لهم في المصانع والمناجم.
حظر الزواج المختلط إذ عُدَّ جريمة يعاقب عليها القانون.
إصدار قانون “مناطق المجموعات” الذي خصص لكل فئة عرقية منطقة بعينها.
إصدار قانون “تصاريح المرور” الذي ألزم الأفارقة بضرورة الحصول على إذن خاص، إذا كان لديه عمل في مناطق أخرى أو الخروج من القرية أثناء ساعات حظر التجوال، ومن يخالف ذلك يُعتقل ويُعاقب دون محاكمة.
وفي مقابل ذلك، فكل من يُعارض تُستباح دماؤه. ومن أمثلة وحشية هذا النظام:
مذبحة شاربفيل 1960.
قَتْلُ أطفال المدارس في انتفاضة “سويتو” 1976.
قَتْلُ “ستيف بيكو” مؤسس حركة الوعي الأسود، بسبب الضرب المُبرح أثناء استجوابه في قسم الشرطة، ولكن أُعلن أن سبب الوفاة هو الإضراب عن الطعام.
وكذلك العديد من الأشخاص الذين اختفوا ولقوا حتفهم في ظروف غامضة، بينما كانوا محتجزين عند الشرطة. وآخرون أعلنت الشرطة انتحارهم بشنق أنفسهم أثناء احتجازهم.
في مقابل هذه السياسات، لجأ “حزب المؤتمر الوطني” في البداية إلى العديد من المحاولات السلمية التي باءت جميعها بالفشل، وتصاعدت بعدها الأمور.
و بعد انتفاضة “سويتو” انضم العديد من الشباب الإفريقي إليها، مما أدى إلى زيادة العمليات العسكرية، فتحولت إلى حرب عصابات شاملة.
إذ وقعت العديد من العمليات ضد مراكز الشرطة والجيش ومحطات الكهرباء والمناجم والمكاتب الحكومية، والتمثيل بالأفارقة الخونة الذين يثبت تعاونهم مع النظام العنصري.
أمدّ حزبُ المؤتمر الوطني الأهالي بالأسلحة والقنابل اليدوية وشجع على الدعوة للحرية، فقام المنتفضون بالهجوم على مناطق البيض، ووضع ألغام في أحد المراكز التجارية أثناء احتفالهم بعيد الميلاد.
لا بد من التعريج على بعض التحولات التي رافقت هذه التطورات، وأهمها استبدال السياسة الداخلية حيث:
رُفع الحظر عن التنظيمات السياسية التي كانت محظورة منذ مذبحة “شاربفيل” مثل: حزب المؤتمر الوطني، والحزب الشيوعي جنوب الإفريقي.
إنهاء الفصل العنصري 1990.
انتخابات 27 أبريل 1994 التي فاز فيها نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني بحكم البلاد.
كان هذا مدعاة لغضب الأقلية البيضاء، بسبب تحول الحكم عن أيديهم، ورغبتهم في الانفراد بالسلطة. في ظل هذه الظروف الشائكة التي كانت تحفز كل طرف تجاه الآخر، وتدفع إلى التربص بأي فرصة لإشعال الوضع. وفي محاولةٍ لحقن الدماء حتى لا تسيل أكثر، وللحفاظ على ما تبقى من موارد الدولة وإنهاء حالة الفوضى وعدم الاستقرار والخروج من بوادر حرب إبادة؛ كانت ثقافة الأوبونتو هي الحل الأمثل.
وبدأ “نيسلون مانديلا” في ذلك، إذ توقف النشاط المُسلح لحزبه، بل إنه دعا سجَّانه الأبيض لحضور حفل التنصيب باعتباره ضيفَ شرفٍ، إلى جانب قوات الأمن والشرطة في مبادرة منه لإظهار ميله للغفران من شعبه، وتشجيعه على التسامح وتخطي الماضي وتذكيرهم بالقيم الإفريقية التي طويت بفعل سنوات الاستعمار.
إنها فكرة تقوم على التصالح “العدالة التصالحية” من خلال تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة، ولكن بشرط أساسي -عفو مشروط- ألا وهو مشاركة الأطراف “ضحايا وجناة”، مع اعتراف علني من الجاني بكل ما اقترفه والضرر الذي ألحقه بالضحية وكل ما ارتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان. وكشف الحقائق على مرأى ومسمع الجميع، وللمجني عليه قبول التفاوض وأخذ تعويض أو ديّة.
وكذلك الانتهاكات التي قام بها حزب المؤتمر الوطني أثناء صراعه ضد نظام الفصل العنصري.
وكان من عمل اللجنة تسجيل الانتهاكات التي أصدرها البرلمان، مثل: السماح بصياغة تشريعات غير عادلة تخدم مصالح النظام، والتي منها قانون 63 الذي أعطى الحق باعتقال أي شخص يُشتبه فيه ومحاكمته دون أمر قضائي، واحتجاز المعتقلين السياسيين دون وجه حق، وكذلك إعطاء الحاكم السلطات وحقوق المنظمات السياسية كافةً.
هذا المفهوم الشعبي قد تتفق أو تختلف معه، ومع آليات تطبيقه لكننا أمام تجربة يقول أصحابها بأنها أحرزت نجاحًا بالفعل.
وإذا تمعنت في معناه تجده ثقافة منتشرة وروحًا حاضرةً في العديد من الديانات والأعراف على اختلاف مسمياتها.
ربما أكثر ما يُحسب له، تحويل المشاعر السلبية التي تسعى للتدمير وللانتقام الدموي من نظام قمعي غير متوازن كنظام الفصل العنصري إلى مشاعر تمثل رغبة في البناء الشامل على أنظمة الدولة كافةً، وترسخ معاني وقيم الإنسانية، مدركةً جيدًا حقوق الإنسان.
المصادر:
إفريقيا السلم والنزاع، ديفيد فرنسيس.
التطور التاريخي لسياسة التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، عبد الوهاب دفع الله أحمد.
مانديلا وجنوب إفريقيا بين الماضي والحاضر، وليد محمود عبد الناصر.
ملامح إنسانية في الفكر الشعبي الإفريقي، ولاء صابر.
الزولو قبيلة لم يطمس الحاضر ماضيها، مجلة إفريقيا قارتنا، العدد الخامس، مايو 2013.