موجز عن نظام التحكم والتوجيه والملاحة في مراكب الفضاء
موجز عن نظام التحكم والتوجيه والملاحة في مراكب الفضاء.
في هذا المقال سنصف بإيجازٍ أحد أهم الأنظمة الفرعية في مراكب الفضاء، وهو نظام التوجيه والملاحة والتحكم (Guidance Navigation and Control)، يعد هذا أحد أهم الأنظمة الفرعية- إن لم يكن أهمها- في أي مركبة فضاء. سنستعرض ما يعنيه هذا النظام الفرعي بلغة سهلة يمكن أن يفهمها غير المتخصص.
المركبة الفضائية لا تكون مركبة فضائية إذا لم يكن لديها هذا النظام الفرعي؛ فهي لا تستطيع الطيران من دونه، هذا النظام الفرعي هو الدماغ والجهاز العصبي للمركبة الفضائية، سنشرح في هذا المقال أولاً: ما الملاحة، ثم التوجيه، ثم عناصر التحكم. ثم سنحاول شرح كيفية عمل كل هذه العناصر معًا كنظام فرعي واحد أثناء مهمة المركبة في الفضاء. ثم سنعطي مثالًا مبسطًا لكيفية عمل هذا النظام الفرعي، من خلال تخيل أنك استيقظت يومًا ما فوجدت نفسك في غابة: ماذا ستفعل من أجل العودة إلى منزلك؟ وهذا المثال مهم لعكس عمل هذا النظام الفرعي في مراكب الفضاء.
الملاحة
الملاحة هي قدرة المركبة الفضائية على تقدير موقعها وسرعتها واتجاهها، وهذا ما نسميه حالة المركبة الفضائية (Vehicle State). لنبدأ بشرح: كيف يقوم نظام الملاحة بتقدير الموقع (Position Estimate)، تحتاج المركبة الفضائية إلى معرفة موقعها في جميع الأوقات بالنسبة للأجرام السماوية الأخرى. على سبيل المثال، يجب أن تعرف المركبة الفضائية بعدها عن الأرض والشمس في جميع محاورها الثلاثة (X ،Y ،Z). يمكن للمركبة الفضائية تقدير موقعها باستخدام تقنيات مختلفة، وأكثرها شيوعًا استخدام الموجات الراديوية التي تنتقل بين المركبة الفضائية والأرض؛ وذلك بحساب وقت السفر الذي تستغرقه الموجات الراديوية ذهابًا وإيابًا بين المركبة ومركز التحكم على الأرض، وهذا يمكن أن يزوّد المركبة بمدى بعدها عن الأرض. بالإضافة إلى ذلك، تحصل المركبات الفضائية دائمًا على تحديثات موقعها من مركز التحكم الأرضي، ويستخدم التحكم الأرضي عادةً نماذج عالية الدقة تتنبأ بموقع المركبة الفضائية ومدارها في أي وقت أثناء مهمة المركبة، وتستمر في تحديث حالة المركبة بشكل مستمر. هناك أيضًا طرق مختلفة لتقدير الموقع، مثل استخدام كاميرات خاصة يمكنها تصوير سمات معينة على سطح القمر والأرض لمعرفة موقع المركبة. سؤالي لك: إذا كنت في سيارتك وشعرت أنك قد ضللت الطريق، ما أول شيء تقوم بفعله؟ كيف يمكنك أن تعرف موقعك الحالي؟ أعتقد أن أول شيء ستفعله هو النظر خارج نافذة سيارتك لمحاولة التعرف على ميزات معينة، مثل عمارة أو جبل تعرفه من قبل.
الحالة الثانية التي يحتاج نظام الملاحة في المركبة الفضائية معرفته هي السرعة (Velocity)، معظم المركبات الفضائية إذا لم تكن جميعها تستخدم مستشعرًا يسمى مقياس التسارع (Accelerometer)، يمكنه استشعار مقدار القوة المؤثرة على المركبة، التي قد تُكسبها سرعةً إضافية، ومن ثم يمكن لهذا المستشعر تقدير فرق السرعة (Delta-Velocity)، ومن ثم تقدير السرعة، كذلك يمكن استخدام ظاهرة دوبلر (Doppler Shift) لتقدير السرعة. البرمجيات المستخدمة في حاسوب المركبة الفضائية تستخدم مرشحات لدمج فرق السرعة (Delta-Velocity) ثم حسابها باستخدام مستشعر مقياس التسارع (Accelerometer) والسرعة المقدرة من ظاهرة دوبلر (Doppler Shift)؛ للتوصل إلى حساب أدق للسرعة، وذلك أدق من استخدام مصدر واحد فالمرشح يستطيع التنبؤ بالسرعة وتحديث آخر حالة حصل عليها وحساب الخطأ بالحالة أيضًا. ينطبق استخدام المرشحات على تقدير الموقع أيضًا، من خلال دمج تقدير الموقع من مصدرين مختلفين للتوصل إلى تقدير أكثر دقة.
آخر حالة مهمة تحتاج المركبة إلى تقديرها هي اتجاه المركبة الفضائية في محاورها الثلاثة، وذلك يعني حالة دوران المركبة وتستطيع اختصارها بعزم الدوران والزخم الزاوي والطاقة الحركية الدائرية، وهذا أمر بالغ الأهمية، ويعني بشكل أساسي الاتجاه أو ما تستقبله المركبة الفضائية. يمكن أن تحدد المركبة الفضائية موقعها وسرعتها، ولكن إذا لم تكن تعرف الاتجاهات في المحاور الثلاثة (X و Y و Z)، فيمكنها على سبيل المثال إطلاق محركاتها في الاتجاه الخاطئ! تستطيع المركبة الفضائية معرفة الاتجاهات باستخدام مستشعرات مختلفة، أحدها مستشعر يسمى الجيرسكوب (Gyroscope) يمكنه استشعار اتجاه المركبة الفضائية. كذلك تستطيع المركبة معرفة الاتجاهات باستخدام متعقب النجوم (Star Tracker)، ويسمى هذا الجهاز أيضًا ماسح النجوم (Star Scanner)، ويقوم هذا بالتقاط صور للنجوم ويقارن نمط النجوم الذي حصل عليه من التصوير بنمط من الصور المخزنة في المركبة، ثم يقوم بحساب الفرق في الزوايا بين النجوم في تلك الصور؛ وبذلك يستطيع تحديد اتجاه المركبة، للتوضيح أكثر: عندما نقول “تقدير الاتجاه” فهذا يعني أن المركبة الفضائية ستستخدم هذه المعلومات لكي تقرر ما إذا كان عليها تغيير اتجاهها، بدرجتين على سبيل المثال، أو تقليل معدل الدوران بمقدار درجة كل ثانية، تقدير الاتجاه يندرج تحت حالة دوران المركبة، وتقدير الموقع والسرعة يندرجان تحت الحالة الانتقالية للمركبة.
التوجيه
بما أن المركبة الفضائية تعرف حالتها الحالية (الموقع والسرعة والاتجاه) كما هو موضح في القسم السابق، فإنها الآن تحتاج إلى معرفة المكان الذي من المفترض أن تذهب إليه وحالة الدوران التي يجب أن تكون عليها، حتى تتمكن من القيام؛ تحصل المركبة على هذه البيانات عادةً قبل أن تبدأ مهمتها، قبل الإقلاع على متن صاروخ للفضاء. بالإضافة إلى ذلك، يقوم متخصصون يعملون في مركز التحكم الأرضي بمراقبة هذه المعلومات وتحديث أي تصحيحات إذا لزم الأمر. تستهدف المركبة الفضائية الحالة الجديدة التي يجب أن تكون عليها، وبذلك تستند إلى البيانات التي حصلت عليها والحالة الملاحية الحالية. يستخدم هذا النظام خوارزميات تقوم بالبحث في البيانات التي تشير- على سبيل المثال- إلى المكان الذي يجب أن تكون فيه المركبة الفضائية، والحالة (الموقع والسرعة والاتجاه) التي يجب أن تكون عليها بعد ساعة من الآن، ثم تستخدم الحالة الملاحية الحالية لحساب التوقيت الذي تحتاج فيه المركبة إلى إعطاء الأوامر لإطلاق المحركات مثلًا، وذلك لتغير سرعتها لكي تصل إلى الموقع الجديد المطلوب، وبذلك يقوم النظام بحساب مقدار التغيير المطلوب في السرعة للوصول إلى الموقع الجديد واتجاهه. باختصار تقوم المركبة بحساب الخطأ بين حالة المركبة الحالية وحالتها المطلوبة في المستقبل.
التحكم
بمجرد أن تحسب المركبة الفضائية الخطأ في الحالة باستخدام نظام التوجيه، فإنها تحتاج إلى استخدام محركاتها لتغيير سرعتها من أجل تغيير موقعها أو مدارها، أو استخدام محركاتها الصغيرة لتغيير حالتها الدورانية. بمجرد أن تتلقى عناصر التحكم الخطأ في الحالة، تقوم بترجمة هذا الخطأ إلى أوامر التحكم. على سبيل المثال، إذا وجد نظام التوجيه أن سرعة المركبة تحتاج إلى تغيير بمقدار 2 متر\ ثانية، فسيقوم نظام التحكم بترجمة التغيير المطلوب في السرعة لمعرفة المدة التي تحتاجها المحركات للعمل قبل إيقافه؛ وذلك لتحقيق التغيير الإضافي المطلوب في السرعة. خلال عمل المحركات لتغيير السرعة، يقوم نظام التحكم بمراقبة نسبة الخطأ في السرعة حتى تصل إلى صفر، ثم يقوم بإرسال أوامر للمحركات كي تتوقف أو يقوم بمراقبة المدة المطلوبة من المحركات لكي تعمل. وبمجرد انتهاء المدة يرسل أوامره لوقف المحركات، وهذا ما يسمى (feedback Controller)، كذلك إذا كان هناك حاجة لتغيير اتجاه المركبة أو ما يسمى بالتحكم الدوران، إذا تم تحديد وجود خطأ في الاتجاه- على سبيل المثال درجتين للمحور X- فسيرسل نظام التحكم أمر مدة تشغيل للمحركات ثم يتلقى نظام التحكم كمية الخطأ حتى تصل إلى الصفر ثم يأمر بإغلاق المحركات.
تائه في الغابة
دعنا الآن نعطي مثالاً مبسطًا لما عليك فعله إذا استيقظت في وسط غابة، ماذا عليك من أجل البقاء والوصول إلى الأمان. أول شيء ستفعله هو أن تعرف أين أنت، وما الاتجاهات بالنسبة إلى موقعك الحالي. يمكنك القيام بذلك من خلال النظر حولك ومحاولة التعرف على شيء كجبل تعرفه، بعد ذلك عليك مراقبة حركة الشمس لمعرفة الاتجاهات (الشمال والجنوب والشرق والغرب) أو عليك النظر إلى النجوم، ربما تحاول التعرف على نمط النجوم ومعرفة تلك التي تقع عادة في الشمال وتلك التي تقع في الجنوب وتلك الموجودة في الشرق أو الغرب. إذا كنت قادرًا على التعرف على جبل معين مثلا تعرفه من قبل، ثم تمكنت من معرفة الاتجاهات، فسوف تعرف موقع الجبل بالنسبة إليك، فلنفترض أنك وجدت أن الجبل يقع شمال شرق المكان الذي توجد فيه حاليًا في الغابة.
بما أنك تمكنت من تحديد الجبل الذي تعرفه واتجاهه، يمكنك الآن أن تتخيل في عقلك موقعًا آخر تعرفه كنت قد رأيت الجبل نفسه منه، دعنا نقول إنك اعتدت أن ترى الجبل نفسه من منزلك (ولهذا السبب استطعت التعرف على هذا الجبل) لنفترض أن اتجاه الجبل بالنسبة إلى منزلك هو الشرق، الآن استطعت أن تعرف اتجاه الجبل بالنسبة إليك، وأنت في موقعك الحالي في الغابة (شمال شرق) وكذلك استطعت أن تعرف اتجاه الجبل بالنسبة إلى منزلك، يمكنك الآن معرفة اتجاه منزلك بالنسبة إليك في موقعك الحالي في الغابة، مع مراعاة أن اتجاه الجبل بالنسبة إليك في الغابة هو شمال شرق، فهذا يعني أن منزلك يقع شمال غرب موقعك الحالي في الغابة. بعد ذلك، ما يجب عليك فعله هو تقدير المسافة من الجبل إلى موقعك الحالي، ثم المسافة من موقعك الحالي في الغابة إلى منزلك.
قد تتمكن من القيام بتقدير المسافة باستخدام إبهامك وحساب بسيط باستخدام زوايا المثلثات لتقدير بُعد هذا الجبل عنك، وقد نستعرض بمقال آخر كيفية فعل ذلك. لنفترض أنك قدّرت المسافة بينك وبين الجبل بنحو 5 كم. الآن تستطيع أن تجد أن الجبل يقع شمال الشرق من موقعك الحالي وعلى بعد 5 كم، بعد ذلك، يمكنك تقدير بُعد منزلك عن موقعك الحالي في الغابة، دعنا نقول إنك تعرف أن الجبل يبعد عن منزلك مسافة 10 كم تقريبًا إلى الشرق من منزلك، يمكنك الآن استخدام حساب مثلثات بسيطًا بافتراض أنك غيرت اتجاهك بمقدار 90 درجة من الجهة التي كنت تواجه فيها الجبل فسوف تجد أن منزلك يبعد عنك نحو مسافة 8.4 كم شمال غرب موقعك الحالي. آخر شيء يجب فعله هو تقدير سرعتك أثناء المشي، لنفترض أنها تبلغ نحو 5 كم\ ساعة.
هذا يعني أنك ستستغرق 5 ساعات للوصول إلى الجبل. أخيرا عليك اتخاذ قرار بشأن الطريق الذي يجب أن تسلكه للعودة إلى المنزل، إما أن تختار الذهاب إلى الجبل، وذلك سيستغرق نحو 5 ساعات حسب التقديرات، ثم عند الوصول إلى الجبل عليك تغيير الاتجاه والتوجه غربًا والسير لمدة 10 ساعات حتى تصل إلى منزلك، وسيصل ذلك إلى إجمالي 15 ساعة من السير أو تستطيع أن تختار السير شمال الغرب لمسافة 8.4 كم مع افتراض أنك ستبدأ في السير بتغير اتجاهك 90 درجة من الشمال الشرقي (اتجاه الجبل) إلى الشمال الغربي (اتجاه المنزل) وبذلك سيستغرق منك أقل من 9 ساعات للوصول إلى منزلك.
يشبه المثال المبسط الذي قدمناه كيفية استخدام المركبة الفضائية لنظام التوجيه والملاحة والتحكم في مهمات الفضاء. هذه المقالة وصف مبسط للغاية لكيفية عمل هذا النظام الفرعي في المركبات الفضائية. لربط كل ما تمت مناقشته، تحتاج المركبة الفضائية إلى معرفة حالتها (موقعها وسرعتها واتجاهها) ويتم ذلك عن طريق نظام الملاحة، ثم تحتاج المركبة إلى معرفة إلى أين يجب أن تذهب، وماذا تفعل لتتمكن من الوصول إلى المكان المطلوب، وهذا المكان المطلوب قد يكون مدارًا جديدًا؛ فيقوم نظام التوجيه بحساب نسبة الخطأ بين الحالة الحالية والحالة التي يجب الوصول إليها. ثم يقوم نظام التحكم باستخدام الخطأ في الحالة لإطلاق المحركات والتحكم بتغيير الحالة الانتقالية للمركبة (الموقع والسرعة) أو حالة الدوران (الاتجاه أو نسبة دوران المركبة).
إعداد: محمد علي عضيبات، مهندس مركبات فضاء متخصص في أنظمة التوجيه والملاحة
والتحكم في وكالة ناسا.
مراجعة:د.سلمى البقلوطي.
المصدر :
Space Mission Engineering: The New SMAD (Space Technology Library, Vol 28) First Edition
Spacecraft-Dynamics-and-Control-A-Practical-Engineering-Approach-Cambridge-Aerospace-Series-Marcel J.Sidi