أين تُخزّن ذكرياتنا؟
منذ الفرضية والتجارب المثيرة لـ McConnell التي بدأت فعليًا سنة 1960، أو بالأحرى الفشل في إيجاد العضو أو العنصر البيولوجي الوظيفي في الجهاز العصبي الذي يحتفظ بمعلومات الذاكرة ويخزّنها، الذي سماه العلماء (Engram) وهو مفهوم مادي لآليات الذاكرة اقترحه عالم الحيوان الألماني ريتشارد سيمون (Richard Wolfgang Semon)، ومنذ أن تأكدت عدم مركزية الدماغ في حفظ الذكريات بالإثبات العلمي الذي جاءت به تجربة كانت سنة 2013 على الديدان المفلطحة (Platyhelminthes) المميزة بقدرتها على تجديد أي جزء فقدته من جسدها حتى الرأس والدماغ، حيث استرجعت الديدان ذكرياتها التي حفظتها بالتدريب حتى بعد قطع الرأس وتجديد أدمغتها.. منذ ذلك، توجَّهت الدراساتِ إلى خارج الدماغ لتبدأ مسيرة البحث في الأنسجة البيولوجية الأخرى، وقد نُشرت نتائج هذه التجربة في (journal experimental biology).
دفع ذلك إلى استنتاجٍ حذّر من أن السبب المحتمل لذلك أن الخلايا الجذعية التي تحوّلت إلى خلايا عصبية في عملية تجديد دماغ الديدان المفلطحة، أمدَّت الدماغ الجديد بالذكريات القديمة، لكنّ هذا لا يغيّر من حقيقة أن الدماغ ليس مكان التخزين؛ فاقتُرِحت فرضية المشابك العصبية باعتبارها عضوًا مباشرًا رئيسًا في استرجاع الذكريات، وخاصة في تخزينها باعتبارها مصدرًا للذكريات، لكنّ المقال يشرح باستفاضة إثباتَ التجاربِ خطأَ هذه النظرية أيضًا، وذلك بعد سلسلة من التجارب والأبحاث للعالِم المتخصص (David Glanzman) في دراسة ظاهرتَي التعلم والذاكرة (learning and memory) منذ سنة 1980 على أحد أنواع رخويات البحر (بطنيات القدم Aplysia)، حيث تراجع عن تبنيها نهائيًا.
هنا ملخص تجربة (David Glanzman) العلمية بدون الدخول في التفاصيل: أُجريَ تثبيطٌ كيميائي لمشابك الكائن العصبية، التي نشطت خلال تخزين الذكرى، وحدوثها أول مرة خلال تدريب الكائن لحفظ الذكرى؛ حتى تُمحى ويُعادَ تحفيز الكائن من جديد، فلُوحظ أنه استرجع ذاكرته من خلال نشاط مشابك عصبية (أخرى) وبشكل عشوائي؛ مما يعني أنها ليست مكانًا (قارًّا ثابتًا) لتخزين الذكريات على المدى الطويل. بعد ذلك جاءت الأبحاث متوالية لقطع الشك باليقين، من مختبر عالِم الأعصاب (Susumu Tonegawa) الحائزِ على جائزة نوبل في معهد (ماساتشوستس للتكنولوجيا)، بتجارب على الحيوانات أثبتت أيضًا أنه لا دور لقوة التشابك العصبي في تخزين الذكريات.
إن زيادة قوة التشابك -السينابسي- العصبي الذي يُعد نتيجة للترابط الخلوي، ليس شرطًا حاسمًا لتخزين الذاكرة. ويقول عالِم الأعصاب (Tomás Ryan) أن شدة التمسك بهذا الفرضية أسفرت عن نحو (12,000) ورقة علمية عن الموضوع، لكنه لم يكن ناجحًا جدًا في شرح كيفية عمل الذاكرة.
النتيجة: لا يرتبط بالضرورة تخزين الذاكرة وقوة التشابك دائمًا، ولا تُعد النسج الخلوية المطلوبة لاستدعاء الذكريات نفسَ الأعضاء التي تخزن الذكريات حتمًا، والبحث عما يخزن الذكريات قد يكون مشوشًا مع النتائج حول كيفية استدعاء الخلايا للذكريات بشكل طبيعي وصامت وخفي!
فالنتيجة التي أثبتتها التجارب أن الوظائف العصبية التي كشفت عنها حُددت أنها (مشاركة) فقط في عملية التذكر، حيث تنطلق بشكل رسائل كيميائية في شبكة من (الميكانيزما) الخلوية المنظمة، لكنها لا تصلح أن تكون تفسيرًا كافيًا لنظام ذاتي لتخزين الذكريات! إنما “تُخبرنا قليلًا عن كيفية عمل الذاكرة” فقط، فكأنها تعمل وتُظهر نشاطًا بارزًا أثناء عملية التذكر، لكن لا تُظهر أي أثر أو معلومة عن مصدر الذكرى المستدعاة أو مكان تخزينها؛ لذلك يصطلح (Tonegawa) تسميتها بـ (silent engrams)، ويقرن المصطلح خصوصًا في حال تذكر الذكريات القديمة التي تبهره في ظهورها المفاجئ على الأنسجة العصبية.
خَلَصَ (Tomás Ryan) إلى استنتاج أن أمر الذاكرة على مستوى عال ومعقد، حين وصفها بكونها شكلًا من أشكال الدماغ نفسه، وليست قطعة مخزنة تشريحيًا في الخلايا العصبية.
ويبقى السؤال: أين تُخزن الذاكرة إذن؟ تتوالى تفسيرات التجارب على حيوانات أخرى، كالتجارب على اليرقات التي تنتقل لتصبح عقربية عث التوت، حيث تحتفظ بذكريات طورها الأول، مع أن أدمغتها تغيّرت جذريًا في تجديد شبه كامل خلال الأطوار المتتالية في حياتها؛ لتتأكد بذلك النتيجة التي تقول أن الوظائف البيولوجية لجميع عناصر الأجهزة العصبية فعلًا مهمة خلال عملية التذكر، لكنها ليست (العلة الكافية) لتفسير عملية التذكر ذاتها، وخاصة مكان تخزين الذكريات! هي مجرد (علل ضرورية لازمة) أو سند أثناء عملية التذكر وترجمة الذكريات، ولكنّ ماهية الذكريات في الكائنات ومكان تخزينها ووجود شفرة بيولوجية أو عضو محدد لها، هي الأسئلة الغامضة وما تفشل في معرفته التجارب كل مرة؛ حتى دفع العلماء إلى أن يعيدوا طرح السؤال عن حقيقة فرضية (engram)، وإثارة الشكوك حول حقيقة البحث عن أساس مادي للذاكرة، كما جاء في اقتباس أحد علماء الأعصاب الذين ذُكروا في هذا المقال.
لأنه سؤال عميق ذو إشكالات، سيؤدي إلى طرح السؤال عن الماهية (الهوية)؛ لأن الذكريات ومحتواها مضمون فردي متجانس متصل يخص ذات الكائن الواحد، وهو ما جاء بنبرة منزعجة مترددة في آخر المقال.
نتائج مماثلة أتت من التجارب على الثدييات أيضًا كالسناجب، وتكرر تفكك السيناريو المادي في فهم الذاكرة ومحاولة حصرها ماديًا.
ــــــــــــــــــــــــ
المقال يفيض بالإشارة إلى كافة الأبحاث والفرضيات والأفكار بين العلماء والأمثلة الرائعة للتشبيه والتقريب لفهم هذه القضية الحساسة في النروفيزيولوجيا؛ لاستعصاء شرح حقيقة الذاكرة وفهمها من الناحية الملموسة المادية، كما يحصل بالضبط أثناء الأخذ بالمنظور المادي لتفسير مَلَكات الإنسان الكبرى، مثل ماهية الوعي والإدراك والتفكير والهوية.. إلخ، بدون الحاجة للإشارة إلى أن قدرة الذاكرة هي أول لَبِنة لتتحقق كل المَلَكات الأخرى، والتجارب -كما رأينا- على مدار سنوات وبعد التطور التقني التكنولوجي لم تقصّر في تفنيد منطق هذا المنظور لتفسير جميع فصول هذه المَلَكة، فضلًا عن كشف حقيقتها ومصدرها المادي المزعوم.
أعدّته: خديجة العوفي.
راجعته علميًا: M.Al Badawi
قوّمه لغويًا: محمد النحوي.