من أسوأ ما يكون سياسياً وأخلاقياً: ترك النظام الاقتصادي الغربي يمضي قدماً دون معرفة: (ما يقوم عليه، وعلى ماذا يعتمد، وبم يرتبط…) والذي سنهتم به هنا هو التالي:
كيف تعمل كل تلك الأشياء معاً؟ ويبدو لي أن هذا الأمر يشكل مهمة كبيرة.
#تمهيد
تحت حكم نظم الدول الغربية في أوروبا، يتصور العقل الغربي بأنه حتى لو جاء الإسلام بكل تقدمه في الهندسة والعلوم والفنون والرياضيات فإنه سيكون مناقضاً تماماً للنظام الرأسمالي، حيث خمس أوقات صلاة ستجعل من شبه المستحيل جعل أوقات الدوام والعمل منضبطة. وفي كل الأحوال فإن هذه الفكرة تمثل تعارضاً مع النظام القاسي الرأسمالي، كما أن التعاليم الإسلامية ترفض أنظمة الاقتصاد الربوية، والتي تُعتبر من أعمدة النظام الرأسمالي.
على الرغم من كثرة التعاليم الإسلامية في المجال الاقتصادي إلا أن الغرب والمنطقة الأوروبية لم تكتسب منها أي شيء يُذكر، حيث تطور هنالك نظام رأسمالي كبير.
إذن ما الذي فعله المسلمون تُجاه الاقتصاد في أوروبا في وقت ماضٍ مع بداية العهد الرأسمالي في أوروبا؟
من الواضح أنه لا شيء!
إذن ما الأمر الذي جعل النظام الاقتصادي الغربي يرتقي إلى منطقة الكمال وجعلنا ننظر إليه بعين التركيز على أنه أفضل النظم الاقتصادية كما لو أنه ارتقى بفعل المؤسسات الغربية ودون تدخل ومساعدة من النظم غير الغربية؟
ملحوظة: يُعتقد أنّ النهضة الرأسمالية في الغرب تعود إلى عهد الثورة الاقتصادية في إيطاليا قبل (1000) عام تقريباً.
#العهد_الإسلامي_الأول في آسيا وإفريقية وأوروبا (٦٥٠-١٠٠٠) ميلادي:
الفكرة التي تقول بأننا يجب أنْ نتناول (البندقية) بدلاً من الشرق الأوسط وشمال إفريقية = هي مشكلة لأربعة أسباب رئيسة، وكلها تقول بأنه لولا الإسلام لما كان للبندقية أنْ تكون مركز التجارة والاقتصاد الأوروبي، حيث كان معظم النشاط الاقتصادي مع خارج أوروبا مع المسلمين المسيطرين على الشرق الأوسط وشمال إفريقية.
1- السبب الأول: الإسلام كان على ميل عالٍ لإقامة نشاطات تجارية مع الآخرين، حتى إننا نذكر أنّ النبي عليه الصلاة والسلام قد عمل مضارباً بأموال السيدة خديجة، كما كان لقريش تجارتهم كما نعلم جميعاً، وظلت تجارتهم قائمة بعد الإسلام، ومع توسع رقعة الأراضي الإسلامية فقد توسعت تجاراتهم، وكان التعامل معهم وَفق شروطهم متقبلاً لدى الغرب.
2- السبب الثاني: يمكننا أنْ نعثر على الكثير من الروابط في القرآن عن الرأسمالية، فإن الإسلام -على وجه العموم- لم يكن عبادة فقط وانعزالاً عن الدنيا، بل يمكن الجمع بين الحج والتجارة والحفاظ على ربح مادي خلالها، كما أن العمل والسعي لطلب الرزق -بحد ذاته- يعتبر عبادة.
كما توضح أكشاك الصرافة في الكوفة وغيرها بأنه لم يكن هنالك تعارض بين تعاليم الإسلام وأعمال التجارة والصرافة، كما أن من الضروري توضيح أنّ القرآن أشار إلى ضرورة الاستثمار المالي، في حين يظنّ كثير من الغربيين أن القوانين القرآنية تسبب التخلف الاقتصادي، لكن في الواقع هي وضعت حداً لمنع استغلال نفوذ أصحاب السلطة والخلفاء والحكام، وقد وضع الفقهاء قوانين تفصل ذلك لعقود وقرون = لذلك لا يستغرب دعم الشريعة للعلاقات التجارية.
3- السبب الثالث: هو الصور التي يعتقدها الغرب عن التاجر المسلم كونه بدائياً وبسيطا؛ لأنه قادم من البادية، وهذه الصورة أتتهم من البدوي الأوربي، لكن مراكز المدن كانت قد نمت نمواً ملحوظاً بفعل الأنشطة التجارية في الشرق الأوسط، من آسيا وإفريقية، ويعزز ماكسيم رودنسون هذه الفقرة قائلاً:
“كثافة الأنشطة الاقتصادية في العالم الإسلامي قد شكل سوقاً عالمياً لا يسبق له مثيل، كما أن تخصص بعض مجموعات التجار بنوع ما جعل بعض الأقاليم تختص بنوع من الصناعة أو الزراعة، ولم يكن هذا النوع من الاقتصاد قد تفرد به العالم الإسلامي فقط وإنما كان مبكراً بالنسبة لغيره في ذلك”.
4- وهذا طبيعياً يدفعنا إلى السبب الرابع، وهو: طبيعة الدعوة الإسلامية وقوتها واسعة النطاق، والتي مكنت المسلمين ودعوتهم من الوصول إلى أجزاء واسعة من العالم بطرق مختلفة، منها: التجارة والعلاقات التجارية.
لم تكن مكة -مركز المسلمين الديني- محطة اعتباطية في الحج، بل كانت واحدة من نقاط تجمع التجارات القادمة من أوروبا وآسيا وإفريقية، كما أن انتشار المسلمين الواسع بعد القرن السابع الميلادي على شواطئ المتوسط قد جعل البحر الأبيض المتوسط بحراً إسلامياً، مع بقاء سواحل لأوروبا عليه؛ مما جعل معظم تجارة أوروبا الخارجية تكون مع أطراف من المسلمين.
ولا ننسى أن معظم الجزر الكبيرة في البحر الأبيض المتوسط كانت بيد المسلمين، كما في: (قبرص، وصقلية، والأندلس أيضاً)، كما لا ننسى وجود المسلمين في مراكز تجارية حيوية، مثل: (الهند، والصين، وإفريقية)، وكانت فترة استثنائية حتى نهاية القرن التاسع حيث سيطر المسلمون على الطرق التجارية من غرب إفريقية وحتى غرب الصين، والذي يحوي طريق الحرير، كما سيطروا على ممرات البحر المتوسط، وتعد تلك الفترة فترة ثروة ورخاء بالنسبة للمسلمين، ويمكننا القول: إن الفترة الممتدة من (600-1492) كانت فترة رخاء في كل من مناطق المسلمين في آسيا وإفريقية.
الدولة الأموية في الشرق الأوسط (661-750) والدولة العباسية (750-1258) والدولة الفاطمية في شمال إفريقية (909-1171) كان لها أهمية تجارية خاصة، فقد ضمنت وحدة سياسية الأراضي التي تخضع لها طرق التجارة، بما في ذلك: البحر الأحمر والخليج العربي. فالعاصمة العباسية (بغداد) كانت موصلة إلى الخليج العربي، والذي بدوره موصول بـ: بحر العرب، والمحيط الهندي، وبحر الصين الشرقي والغربي.
اليعقوبي (~٨٧٥) ميلادية كان قد وصف بغداد بأنها تمتلك خطاً مائياً يوصلها إلى (جبهة العالم)، وقال المنصور: إنه لا يوجد عائق يمنع ما هو موجود في الصين والبحر بأن يصل إلى بغداد.
كما كان هناك موانئ هامة على طول الخليج العربي، كـ: ميناء صيراف إلى الجنوب من شيراز في فارس، ولا ننسى أيضاً شواطئ البحر الأحمر -خصوصاً من الجانب المصري- حيث كان لها أهمية كبيرة أكثر من بقية الموانئ.
بالإضافة إلى الطرق البحرية كانت الطرق البرية، لا سيما طريق الصين، والذي يبدأ بتبريز من خلال المدن الهامة في فارس وخراسان وهي همدان ونيسابور، ثم بخارى وسمرقند، ومن ثم إلى الصين أو إلى الهند.
ويقول ماركو بولو -ابن بطوطة الأوربي- معجباً بتبريز:
“يعيش التبريزيون على التجارة والصناعة، حيث إن للمدينة موقع تجاري مميز، فهي ملتقى وسوق تجاري للقوافل المتبادلة بين الهند وبغداد، والموصل وهرمز، والكثير من القوافل القادمة من أماكن أخرى، والكثير من تجار اللاتين يتسوق البضائع الأجنبية منها؛ كونها مستوردة، كما أن مختلف الأحجار الكريمة تتوفر بها بوفرة كبيرة، وهي مدينة توفر أرباحاً جيدة للقوافل التجارية”.
(Bloom and blair 2001:164)
المسلمون -على وجه الخصوص- اعتمدوا بالتجارة مع إفريقية على الكثير من مناطقها وليس فقط شمالها، وذلك يرجع لأسباب عدة، أهمها:
1- أن مصر تربط القارة مع غيرها من القارات، وهي الطريق البري الوحيد مع خارجها، كما يسيطر المسلمون على شواطئ البحر الأحمر.
2- والثاني هو أن الأسواق الإفريقية ربما كانت الأسواق الأكثر ربحاً للتجار المسلمين، ويظهر معنا نشاط تجاري إسلامي في الشاطئ الشرقي لإفريقية، ابتداءً من سواحل البحر الأحمر وحتى موزنبيق، كما أن مناجم الذهب التي كانت موجودة في إثيوبيا وتنزانيا وزيمبابوي كان نشاطها التجاري مع موانئ عدن وسهر وصيراف، وتلك التجارات شجعت التجار على الوصول إلى مناطق نائية في إفريقية.
ومن الخطأ القول: (إن الشاطئ الغربي كان معزولاً اقتصادياً حتى وصول الأوربيين) كما هو مشهور؛ لأن الوصول الإسلامي إلى غرب إفريقية كان في عهد باكر من العصر الإسلامي، حيث وصل المسلمون إلى: سواحل سجلماسا، وأوداغست في موريتانيا، واستطاعوا ربط الشاطئ الشرقي بالغربي عبر الصحراء الكبرى الإفريقية، وحتى قبل الألفية الثانية كانت العلاقات التجارية بين المسلمين والأفارقة قوية لدرجة يمكن القول عنها إنها: “وحدة اقتصادية”، وتوسع ذلك مع بداية الثورة الاقتصادية في أوروبا بعد (1000) ميلادي.