تحدثنا في الحلقة الماضية عن كيفية دخول الهواء وخروجه من الرئتين. هذا يشبه عمليتي الاستيراد والتصدير في التجارة، وحيث أن طرق التجارة دائمًا محفوفة بالمخاطر، فكذلك التنفس!
الأعداء تتربص بنا الدوائر، فتحاول البكتيريا والفيروسات سلوك هذه الطريق للعبور إلى الجسم والفتك به.
ومن جانب آخر، يجب المراقبة جيدًا لأن بضاعةٌ فاسدةٌ ما أو موادٌ محرّمة قد تدخل الأسواق.
وفي حالتنا، الغازات السامة ورواسب التدخين والتلوث وغير ذلك. تركيزنا سيكون على هذه الأخيرة في هذه الحلقة.
——————-
تنظيف الطرق بالكنس والماء والصابون:
القصبات الهوائية ليست عبارة عن معبر عادي للتبادل الهوائي. تحدثنا- لو تذكر- فيما سبق أنها محفوفة بحلقات غضروفية تساعد في صلابتها وتماسكها من الإنكماش الكلي الذي سيقطع الهواء.
إليك المزيد:
على السطح الداخلي للرئة (أي مقابل الهواء مباشرةً) هناك نوعان من الخلايا على الأقل لهذه المهمة. سوف أشرح لك بهذا المثال البسيط:
إذا أردتَ أن تنظف أرضية المنزل ماذا تفعل؟
تكنس الأرض لإزالة الأوساخ الكبيرة ثم ترمي الماء ثم تشطف الماء نحو الميزاب للتخلص منه. هذا العمل المتقن يتبعه جهازنا التنفسي بحذافيره!
إليك التفاصيل..
1- الشعر الموجود في الأنف يكنس كل الغبار كبير الحجم فلا يصل أصلًا إلى القصبات. أما الأوساخ الأقل حجمًا التي تفلت من الكنس وتصل القصبات –أو أعماق الأنف- فإن أول نوع من الخلايا Goblet Cells تفرز سائلا يلعب دور الماء، بل يلعب دور الصابون لأنه لزج (المخاط Mucous) الصورة 1 (في التعليقات).
2- بقي عملية الشطف: وهنا يأتي دور النوع الثاني من الخلايا Ciliated Cells. (الصورة 2 تبين نوعي الخلايا). هذه الخلايا على سطح كل واحدة منها 200 شعيرة! تنبض هذه الشعيرات بمعدل 10 إلى 20 مرة في الثانية الواحدة!
أما وجهة هذا النبض فهو نحو الأعلى. فتتراقص الشعيرات لتوجه الماء الملوث نحو الفم فإما أن تتخلص من الماء بإخراجه أو يتوجه تلقائيًا نحو المعدة التي تقتل مواده السامة بالحمض -مادة كيميائية فعالة جدًا في التنظيف والتخلص من البكتيريا العالقة-.
لعلك تذكر هنا تنافس الشركات بعلمائها في إنتاج منظفات تقتل البكتيريا بنسبة 99.99% كما يقولون.
العجيب أن أعلى الأنف في الداخل أي في عمقه، هذه الخلايا أيضًا موجودة لكنها بالطبع لا تنبض نحو الأعلى بل تغير وجهتها لتوجه الماء نحو الأسفل أي الحلقوم ومنه إلى الفم أو المعدة.
————–
التنظيف وحده لا يكفي:
هنا تعلم الرئة بوجود الخطر. هناك بضاعة فاسدة تدخل ويجري التخلص منها. هذا يحدث مثلًا عندما تكون في الطريق وتصوب إحدى السيارات دخانها نحو وجهك. التخلص من البضاعة التي دخلت لا يكفي، قد يدخل غيرها. وهنا يجب تضييق طرق التجارة مؤقتًا ريثما يُحل الموقف.
الخلايا التي تحدثنا عنها في الأعلى ترفع تقريرًا بما يحدث فيتدخل الجهاز العصبي (قطاع الإتصالات) والجهاز المناعي (أمن المرفأ أو المطار) فيفرضان طوقًا مشددًا حول مسرح الحدث. يأمران الألياف العضلية حول القصبات (الصورة 3) –مثل الغضروف- فتنكمش هذه الحلقات العضلية فتضيق المجرى Brocho constriction (الصورة 1). أي إتقان!
هنا بالضبط تعلم سبب تواجد حلقات مقطعة وليست كاملة من الغضروف. ولماذا هو من الغضروف الرخو وليس من العظام الصلبة! صحيح أنك تحتاج إلى صلابة ما لتمنع من انكماش المضيق كليًا، لكنك تحتاج إلى مرونة أيضًا عند الطوارئ لإغلاقه نسبيًا، وهذا ما لا تسمح به العظام الصلبة.
————————–
فائدة أخرى للتحكم بالطرق الهوائية:
ماذا إن تعطلت سبل تصريف البضاعة نفسها، وليس سبل توريدها؟
كما ترى فالرئة يأتيها الهواء وتوزعه على حجرات (الأسناخ) ويمر في هذه الأسناخ شرايين لتأخذ الأوكسجين (سبل التصريف).
ماذا لو سُدت بعض الشرايين المتجهة نحو بعض حجرات (أسناخ) الرئة كجلطة مثلًا؟
أي مدير ناجح لأي مشروع أو شركة سيقول لك: من العبث إرسال الهواء نحو هذا القسم. وكذلك يحصل هنا؛ الألياف العضلية أعلاه تعمل على إقفال المعابر الهوائية المؤدية إلى هذا الجناح، فيما تترك الأخرى مفتوحة ليتجه الهواء لبقية الحجرات التي تعمل!
ألا فسبح معي اللطيف الخبير.
المصدر :
TEXTBOOK of MEDICAL PHYSIOLOGY, Guyton &Hall, 13th edition, pages 505-506