الزمان: 486 هـ / 1093 م، المكان: أزقة مدينة القدس، حيث كان الراهب الفرنسي «بطرس الناسك» في زيارة حجّ إلى بيت المقدس، التي كانت حينها تحت السيادة الإسلامية، وهو ما أغاظ هذا الراهب الفرنسي وجعله يحمل همّ دعوة المسيحيين إلى إنقاذ الأماكن النصرانية المقدسة من أيدي المسلمين، فتوجّه قافلًا إلى روما للقاء البابا «أوربان الثاني» وإعطائه صورةً لوضعية بيت المقدس مطالبًا البابا بتحريك حملةٍ صليبيةٍ عاجلةٍ لاسترجاع بيت المقدس، وكنيسة القيامة.
لاقت دعوة الراهب «بطرس الناسك» استحسان البابا «أوربان الثاني»، وتحوّل «بطرس الناسك» إلى أداة دعايةٍ للحملة بين المجامع العامة، مرتحلًا بَغلتَهُ إلى إيطاليا وفرنسا، وحاملًا أفكاره الهائجة المعتنقة للصليبية، أمّا البابا «أوربان الثاني» فقد عمد إلى عقد المجامع الكنسية للبحث في كيفية تنفيذ خطّة غزو البلاد الشامية؛ وتخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين، في انتظار ساعة الصفر لبدء أولى الحملات الصليبية على المسلمين.
المسلمون قبل بدء الحروب الصليبية:
يجمع الكثير من المؤرخين على أنّ ما سهّل للصليبيين قرارهم ببدء الحروب الصليبية لاسترجاع بيت المقدس، هو حالة الهوان والضعف التي كانت تعاني منها الدولة الإسلامية آنذاك، المتمثلة في الخلافة العباسية؛ التي دبّ فيها الفساد والانحلال والفتن والانقسام، ومن بين مظاهر تلك العوامل التي جعلت البلاد الإسلامية كغثاء السيل؛ تحوّل اسم الخليفة إلى اسمٍ رمزي لا سلطة له، وأصبح للمماليك الحل والعقد فأنشؤوا دولًا كثيرةً من رحم الخلافة العباسية، أهمها: «الدولة الطولونية» في الفترة ما بين 867 م و905 م وهي الدولة التي أنشأها «أحمد بن طولون»، «الدولة الإخشيدية» عام 935 م بقيادة «محمد بن طغج الإخشيدي الفارسي»، «الدولة الحمدانية» في حلب عام 941 م بقيادة «سيف الدولة الحمداني»، «الدولة الفاطمية» في بلاد المغرب الإسلامي، «الدولة السلجوقية» في آسيا الصغرى وأجزاءٍ من الأناضول.
وكان هذا الانقسام واضحًا، فقد ساد الطمع والأهواء قلوب الحكام والأمراء المسلمين، وأخذوا يتنافسون على السلطة ووصل الأمر إلى قتل بعضهم لبعض، فنذكر على سبيل المثال قتل تاج الدولة في دولة السلاجقة «تتش بن ألب أرسلان» لأفضل رجاله وهو «أحمد سنقر» بسبب عدم موافقته على عصيان أخيه «ملكشاه».
ويذكر «محمد العروسي المطوي» في كتابه «الحروب الصليبية في المشرق والمغرب» أنّ حالة الانقسام في البلاد الإسلامية بلغت حدّها الأقصى قبل سنتين من انطلاق الحملة الصليبية الأولى وذلك بعد أن بلغ الشقاق بين جميع حكام الدول الإسلامية درجة كبيرة، وصار الخلفاء والحكام يستعينون بغيرهم.
أسباب الحملة الصليبية الأولى على بيت المقدس:
ربّما لم يعرف التاريخ الإنساني ظاهرةً تاريخيةً حملت مصطلحًا مناقضًا لحقيقتها مثل «الحروب الصليبية»، هذا المصطلح المضلل والملفَّق كان نتاج عددٍ من التطورات التاريخية والمفارقات المدهشة في التاريخين العربي والأوروبي على حدّ سواء، فقد كانت الأسباب الدينية هي السمة البارزة والهرمون الذي حفّز الصليبيين في حملتهم على البلاد الإسلامية، بدايةً من قيادة البابا «أوربان الثاني» للحملة ومساعدة الراهب «بطرس الناسك» له في ذلك.
وفي كتاب «الحركة الصليبية» يعرّج الدكتور «سعيد عبد الفتاح عاشور» على الأسباب التي دفعت الكنيسة إلى قيادة الحملة ويبيّن أسبابًا أخرى لطالما تجاهلها العديد من المؤرخين، من بينها الحقد الصليبي على المسلمين والخوف من قوتهم خصوصًا بعد موقعة الزلاقة في بلاد الأندلس سنة 1086 م. كما كان للسياسة والضعف والانقسام -الذي عرّجنا عليه سابقًا- حيزًا في إقدام الصليبيين على خطوة غزو البلاد الإسلامية، دون أن نغفل عن الجانب الاقتصادي، خصوصًا أنّ فرنسا التي تقود الحملة كانت تعيش تبعات المجاعة التي عصفت بها في القرن الحادي عشر للميلاد.
الحملة الصليبية الأولى:
في 27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1095، خرج البابا «أوربان الثاني» إلى حشود الصليبيين في حقلٍ فسيحٍ بجانب كنيسة «أوفيرني» بمدينة «كليرمون» بضواحي باريس الفرنسية ليلقي خطبته التاريخية التي أعدّت الضوء الأخضر لبداية الحملة الصليبية، وكانت هذه الخطبة خاتمة مجمع ديني عقده البابا وأعلن من خلاله شنّ حملة تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين.
اتفق مجمع «كليرمون» على أن يكون موعد الصفر لانطلاق الحملة يوم 15 أغسطس (آب) 1096 م، وأن يكون اللقاء في مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وقبل الموعد المحدد للسير في الحملة، تكوّنت كتائب صليبية شعبية على غايةٍ من الفوضى والاضطراب بقيادة الراهب «بطرس الناسك»، وسارت في فوضاها واضطرابها نحو القسطنطينية، مخترقةً أوروبا الوسطى تسلب وتنهب وتشتبك مع الأهالي المسيحيين حتى وصلت إلى القسطنطينية في يوليو (تموز) من العام ذاته قبل أن تلقى حتفها قرب «نيقية» بعد أن أجهز عليها السلطان السلجوقي «قلج أرسلان» في الطريق.
وبينما كانت كتائب «بطرس الناسك» تباد على أيدي السلاجقة، كانت حركة التجهيز الصليبي للحملة على قدم وساق في فرنسا وإيطاليا بقيادة الإقطاعيين وقسّمت الجيوش كالآتي:
حملة من جنوب فرنسا يقودها «ريموند دي سنجل» تسلك طريق شمال إيطاليا ثم ألمانيا قبل أن تنزل الأراضي الكرواتية في طريقها إلى القسطنطينية.
حملة من شمال فرنسا تحت قيادة «روبرت كورت هوز» تسلك شمال إيطاليا ثم تتوجّه إلى الساحل مرورًا بألبانيا ومقدونيا للوصول إلى القسطنطينية.
حملة من أعالي فرنسا من إقليم «برابنت» بقيادة «قود» و«فروا دي بويون» تسلك طريق المجر إلى القسطنطينية.
حملة من جنوب إيطاليا بقيادة «النرمان» تخترق مقدونيا لبلوغ القسطنطينية.
وكانت الجيوش الصليبية كلّما مرّت بناحية انضمّ إليها متطوعون ليبلغ عدد الجيوش الأربعة مئات الآلاف، حتى نعته البعض بقولهم «كانت الجيوش الصليبية شعبًا كاملًا يسيرُ».
ومن القسطنطينية انطلقت الحملة باتجاه فلسطين، لتزحف على مدينة «قونية» التي صمد فيها السلطان السلجوقي «قلج أرسلان» خمسين يومًا قبل أن تسقط مدينته بأيدي الصليبيين، كما اتجهوا إلى مدينة أنطاكيا التي كانت تحت حكم السلطان السلجوقي «ياغسيان» وحاصروها حصارًا طويلًا امتدّ من أكتوبر (تشرين الأول) 1097 م إلى يونيو (حزيران) 1098 م.
حاول المسلمون نجدة مدينة أنطاكيا وفكّ حصارها، إلّا أن خيانةً من أحد حرّاس المدينة وهو «فيروز الأرمني» أدت إلى سقوط المدينة ودخول الصليبيين إليها، فقاموا بحرقها والتنكيل بأهلها.
في يناير كانون الثاني 1099، بدأت الجيوش الصليبية بالتوجه إلى القدس، ليصلوا إلى مشارفها بعد ستة أشهر كاملة ويبدؤوا في محاصرتها؛ وكانت مدينة القدس قد أضحت في تلك الفترة تحت سلطة الفاطميين بعد أن استغلّ الفاطميون الحاكمون لمصر الأوضاع التي يعيشها المسلمون -خصوصًا السلاجقة- ليقوموا بضمّ القدس.
لم تصمد مدينة القدس سوى شهرٍ واحدٍ لتسقط في يد الصليبيين، ففي الخامس عشر من يوليو (تموز) 1099 تمكّن الصليبيون من اقتحام الأسوار واحتلال المدينة مرتكبين أبشع الجرائم في حقّ سكانها، وعندما توقّفت مذابح الصليبيين بالقدس بعد يومين من استباحتها لم يكن قد بقي مسلمٌ واحدٌ في المدينة، فقد بلغ عدد الشهداء المسلمين سبعين ألف شهيد!
ولم يكن حظّ اليهود بأقل من المسلمين فقد أحرقوا جماعاتٍ في حيّهم القائم شمال القدس في مشهدٍ لا يذكره المؤرخون الغربيون كثيرًا.
بعد أن استقرت الأمور للصليبيين في بيت المقدس، سارعوا لإكمال احتلال فلسطين، باحتلال نابلس والجليل، كما أوقفوا حملة الفاطميين لاسترجاع القدس في موقعة عسقلان الشهيرة والتي تكبّد فيها الفاطميون هزيمة كبيرة.
في المقال القادم نستذكر أوضاع بيت المقدس في عهد الصليبيين، وأهم الحملات التي قام بها المسلمون لاسترجاعه.
المصادر:
محمّد العروسي المطوي، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب.
أمين معلوف، الحروب الصليبية كما رآها العرب.
د. مغيد الزيدي موسوعة تاريخ الحملات الصليبية.
د. قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية.
د. سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية.