استعرضنا في الموضوع السابق نقطتان من النقاط التي يجب أن يتقن الحوار فيهما وفهمهما أي مسلم يحاور ملحدا أو غيره – حيث يتجلى فيهما قصور أدوات المنهج التجريبي وتتجلى حدوده التي تضعه في مكانه الطبيعي كـ (أحد) وسائل المعرفة وليس (حصر) وسائل المعرفة فيه كما يزعم الملاحدة والماديون (أتباع المنهج المادي)، واليوم نضيف نقطتين أخرتين – والثانية منهما نمهد بها لمعضلة (الوعي) التي يعجز العلم التجريبي أمامها كما سنرى غدا بإذن الله .. ودعونا نبدأ
إن أحد أدلة قصور العلم التجريبي هي عدم امتلاكه الأدوات التي يصف بها (الجمال) – سواء الجمال الذي نجده في قصة أو رواية أو تجسيم أو تكوين أو حتى لوحة أو رسمة صغيرة !! ودعونا نضرب مثالا ….
في يدك مجموعة من القصاصات الورقية المكونة من خطوط مقصوصة ومنحنيات ودوائر ومساحات لونية مختلفة المساحات والأشكال – وقد أعطينا نفس هذه المجموعة بالضبط إلى طفل رضيع في عمر العام !! ثم شرع كل منكما في عمل تشكيل بها أمامه
فأما نتيجتك :
فكانت لوحة رائعة الجمال متناسقة الخطوط والألوان والمساحات
وأما نتيجة الطفل الرضيع :
فكانت تداخلات عشوائية غير ذات تنسيق أو معنى محدد
والسؤال :
الفراق بين النتيجتين يستطيع معرفته واستشعاره (الفرق بين الجمال والقبح) لدى أي إنسان – فهل يستطيع العلم التجريبي ترجمة ذلك ؟ هل يستطيع وضع مقياسا لدرجة الجمال ؟! وقبل أن يتحدث البعض عن بعض التناسقات والعلاقات الهندسية : فإن هناك لوحات لا تلتزم بهذه التناسقات والعلاقات أو تخالفها بنسب متغيرة وليست ثابتة ولكنها تتسم أيضا بالجمال !!
والشاهد :
الجمال يقع خارج العلم التجريبي وأدواته
إن بداخل كل منا (أنا) ذاتية تستشعر الأِياء وتعطي لها (انطباعات) لا يمكن رصدها ولا تمثيلها بالعلم التجريبي !! إنها شيء خرج نطاق القياس الذي يظن الماديون أنهم يخرجون به من المخ أو الدماغ والوصف الكيميائي أو الفيزيائي أو الكهربي لما يجري فيها استجابة لبعض الأشياء !! إنها (انفعال) خاص يعرفه كل أحد : حتى ولو يجد العبارات المناسبة لوصفه !! أنت يمكنك قياس تسارع دقات قلب المحب إذا رأى محبوبه : لكنك أبدا لن تعطينا (شعورا ووعيا ذاتيا) بما يحس به الآن بالفعل !! فالأوصاف المادية هي ظاهر (مادي) لانفعالات ذاتية الوعي لا قياس لها بأدوات العلم التجريبي !!
هذا الكلام على بساطته التي يعرفها كل إنسان من داخله : إلا أنه يمثل أحد جوانب أو مقدمات واحدة من أشهر مشاكل الماديين ألا وهي : (مشكلة الوعي الصعبة) – ورغم أننا سنخصص لها الغد للحديث عنها بإذن الله – إلا أننا سنعرض اليوم مثالا هاما للتقريب – والمثال اسمه (حُجة ماري) – وقد قدمه فرانك جاكسون عام 1986 في مجلة الفلسفة – المجلد 83 – رقم 5 – صفحة 291-295 وفيه :
أن العلماء وضعوا ماري في غرفة من لونين فقط طيلة حياتها وهما الأبيض والأسود -بحيث لا تكتسب أية معلومات عن العالم إلا من خلال تلفزيونات وكمبيوترات لا تعرض أيضا الأشياء إلا بالأبيض والأسود – وهي من خلال هذه التلفزيونات والكمبيوترات تستطيع الحصول على أية معلومات (تجريبية) و (مادية) لوصف أي شيء في العالم تسأل عنه – لدرجة وجود أوصاف لما يشعر به الإنسان عند رؤية الأشياء والطبيعة والألوان – كل ذلك نترجم به محصلة (العلم التجريبي) التوصيفي للأِشياء – والسؤال :
تم فتح باب الغرفة لماري لأول مرة في حياتها : ورأت بعينها فعليا زهرة حمراء !! فهل يعتقد أي أحد أن هناك (وعيا ذاتيا) و (شعورا خاصا) ينتابها الآن مع رؤية اللون الأحمر : لم يوجد في توصيف العلم التجريبي وليس في استطاعته أن يتوصل إليه بل وقد يختلف من شخص لآخر ؟!
هذه الحجة الفلسفية أو الفكرية (حجة ماري) توضح لنا أحد جوانب قصور المنهج التجريبي أو العلم التجريبي وأنه عاجز أمام بعض الأِياء الهامة في حياتنا بل واللصيقة بوجودنا وبـ (الأنا) الخاصة بكل منا : ثم بعد ذلك يأتي الملحد أو المادي ليقول أن العلم التجريبي هو السبيل والطريق الوحيد لمعرفة أي شيء وكل شيء في الوجود والعالم !!
ونتابع غدا مع (مشكلة الوعي الصعبة) بإذن الله
فتابعونا