ما الفائدة من استكشاف الفضاء ؟
مقدمة:
منذ عدة أيام دخل صديقي عادل إلى المكتب حاملًا صحيفة يقرأها، دفع الجريدة إليّ قائلًا: (انظر إلى هذا يا رائد الفضاء، الآلاف يموتون جوعًا وفقرًا في العالم، وأمثالك ينفقون الملايين على محطة فضاء تهوي في النهاية إلى الأرض) وذلك في إشارة منه إلى محطة الفضاء الصينية تيانقونغ-1والتي هوت مؤخرًا في المحيط الهادي.
ينظر العديد من الأشخاص (مثل صديقي) إلى عمليات الصعود واستكشاف الفضاء نظرة شك وأنّها مضيعة للوقت والمال والجهد، ويتساءلون باستمرار عن الفائدة المرجوة للبشرية من إرسال مركبة فضاء إلى كوكب بلوتو “نيوهورايزونز” والتي بلغت تكلفتها حوالي 650 مليون دولار أو حتى من إرسال البشر إلى المريخ والذي لا شك أنّه سيكلف مئات الملايين إن لم نقل المليارات.
سأحاول في هذا المقال تسليط الضوء على هذه المسألة وشرح النواحي الإيجابية من علميات الصعود واستكشاف الفضاء والتي تتسابق فيها الدول لإحراز السبق في هذا المجال.
وقبل عرض هذه النواحي طلبت من صديقي عادل أن يصعد معي إلى قطار الزمن لنستعرض سريعًا أهم علاقة للبشرية مع ماهو خارج هذا العالم والذي سُمّي لاحقًا بالفضاء.
عبر التاريخ
عبر التاريخ أمعنت الشعوب الإنسانية نظرها طويلًا نحو السماء وشاهدت كيف تتلألأ السماء بنقاط لامعة بعضها ثابت لا يتحرك سمّوها بالنجوم، وبعضها يتحرك عبر قرص السماء وسُمّيت بالكواكب، كما لاحظت أن بعضها يتوهج ويختفي وسموها بالشهب.
كان لكل شعبٍ من هذه الشعوب غايته بالنظر إلى السماء، فاهتم البابليون القدماء بالنظر إلى السماء ليتعرفوا أحوال الريح وفصول السنة، ونبغ الإغريق بعلم الفلك وأعطوه أهمية كبيرة حيث استفادوا أيضًا من معرفتهم ببروج السماء في محاولة للتعرف على الغيب وقدم علماؤهم إسهامات كبيرة في مجال الفلك.
بينما استخدم العرب القدماء النجوم ليتعرفوا إلى الجهات الأربع خلال رحلاتهم في أقاصي الصحراء، فهذا نجم الشمال والذي يشير دائمًا إلى جهة الشمال.
وبعد قدوم الإسلام اهتمّ المسلمون بدراسة الفلك امتثالًا لقوله تعالى: )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ( وقدّموا إسهامات كثيرة في هذا المجال، واخترعوا وطَوّروا أدوات فلكية ساهمت في تطور علم الفلك.
تلقف الغرب علم الفلك من العرب كما تلقف العلوم الأخرى، وحمل لواء الريادة في علوم الفلك حيث برزت الاستكشافات والنظريات الخاصة بهذا العلم، وخاصة بعد تطويره للأدوات الفلكية التي تلقفها من العرب واختراع بعضها.
وفي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 1957 بدء عصر جديد بإطلاق الاتحاد السوفييتي القمر الصناعي سبوتنك-1 والذي فتح نافذة كبيرة لم تكن موجودة من قبل لدى البشرية للتعرف على أسرار الفضاء.
وإلى اليوم بلغ مجمل عمليات الإطلاق الفضائية حوالي 5,684 علمية إطلاق كانت نسبة الفشل فيها 8%، وصعد إلى الفضاء أكثر من 530 رائد فضاء تُوفي منهم حوالي 18 رائد فضاء، أمّا بالنسبة للأموال التي تُدفع في سبيل الصعود واستكشاف الفضاء فهذه قائمة بميزانيات أهم وكالات الفضاء الدولية:
الوكالة | الميزانية |
وكالة ناسا (الولايات المتحدة الأمريكية) | 13.6 مليار دولار |
وكالة الفضاء الأوروبية | 3.5 مليار دولار |
منظمة استكشاف الفضاء اليابانية | 1.8 مليار دولار |
إدارة الفضاء الوطنية الصينية | 1.2 مليار دولار |
وكالة الفضاء الروسية | 900 مليون دولار |
منظمة البحوث الفضائية الهندية | 900 مليون دولار |
وفي نهاية هذه الرحلة ازداد إصرار صديقي عادل على سؤاله: ما الفائدة المرجوة من صرف كل هذه المبالغ؟ وهل يستحق استكشاف الفضاء كل هذا العناء؟
حفزني سؤال صديقي للبحث عن إجابة لهذه التساؤلات وغيرها من الأسئلة التي تناقش في جدوى القيام باستكشاف الفضاء، وطلبت من صديقي العزيز إمهالي لأقوم بالبحث وتقديم الإجابة الصحيحة بإذنه تعالى.
وفعلًا قمت بتجهيز رحلة (خيالية) لصديقي نتجول خلالها معًا في الفضاء ونرى بأمّ عيننا الفوائد من استكشافه.
ما الفائدة من استكشاف الفضاء ؟
وافق صديقي المتشكك على مضض للذهاب معي في هذه الرحلة، وأثناء انطلاقنا في الفضاء ولأخفف عن صديقي ثقل المراحل الأولى في الصعود للفضاء حيث يزداد ضغط الجاذبية على جسم رائد الفضاء لعدة دقائق ريثما يصل إلى المدار الأرضي وينتهي تأثير الجاذبية على جسم الإنسان، بدأت كلامي بأنّ الله عز وجل قد غرس في الإنسان حبّ التعلم واكتشاف المجهول حيث جاء في نص الآية الكريمة قوله تعالى : ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ وأستدل من هذه الآية الكريمة أنّه عزّ وجل غرس حب التعلم في سيدنا آدم وذريته بينما لا توجد هذه الخاصية للمخلوقات الأخرى كالملائكة والحيوانات.
فردّ صديقي وهو منزعج من شدة ضغط الجاذبية التي تعرضنا لها: حسنًا، لكن هذا لا يعني أبدًا أن نخاطر بحياتنا من أجل فقط أن نرى الأرض من الأعلى أو نقوم برحلة لا فائدة منها فوق الأرض ونشعر بحالة انعدام الجاذبية، وهي تُكلّف الملايين وتخاطر بحياة رواد الفضاء.
للإجابة على أسئلة صديقي العزيز قمنا بزيارة محطة الفضاء الدولية وهي أكبر جسم بناه الإنسان في الفضاء حتى الآن؛ حيث يبلغ حجمها 388 متر مكعب أي أكبر من ملعب كرة قدم واشتركت في بنائها 15 دولة؛ وبدأت بالشرح لصديقي قائلًا: تنقسم يا عزيزي فوائد استكشاف وغزو الفضاء إلى نوعين:
- فوائد غير مباشرة
- فوائد مباشرة
أما الفوائد الغير مباشرة فتتلخص في:
- زيادة فهم الإنسان للكون المحيط به وما يوجد فيه من أجرام فلكية مثل الكويكبات والمذنبات والتي يسهم استكشاف الفضاء في معرفة مساراتها ومدى اقترابها من الأرض.
- رغم أنّ عدد الدول التي تملك برنامج فضائي مستقل ما زال قليلًا، إلا أنّ الحركة الاقتصادية المصاحبة لعمليات استكشاف الفضاء تساهم في تحريك الوضع الاقتصادي لهذه الدول عبر الأموال التي يتم ضخها في المجالات المصاحبة لاستكشاف الفضاء مثل الصناعة ومراكز البحوث وغيرها، وسأُري صديقي فوائد مباشرة ساهمت فيها عمليات استكشاف الفضاء بتحسين العديد من المنتجات التي نستخدمها في حياتنا اليومية.
- إنّ مهمة استكشاف الفضاء هي مهمة مُكلفة وصعبة حتى للدول الكبرى والغنية، وهذا الذي دفعها للتعاون في هذا المجال وأكبر وأفضل مثال على ذلك هي محطة الفضاء الدولية والتي سبق وتحدثنا عنها.
الفوائد المباشرة لغزو واستكشاف الفضاء:
ربما تكون الفوائد الغير مباشرة غير واضحة أمام صديقي وغيره من الناقدين؛ لكن هنالك الكثير من التقنيات التي نستخدمها في حياتنا اليومية ولا يعلم الكثير منّا أنّها طُوِّرت في الفضاء أو ضمن الصناعات المرافقة لعملية استكشاف الفضاء، ومنها:
تطوير منظومات تساعد على الرعاية الصحية للإنسان:
ومن جهة أخرى فإنّ بيئة الفضاء القاسية تتطلب تطوير تقنيات طبية تحافظ على حياة رواد الفضاء عند سفرهم لمدة طويلة فيه، مثل تقنيات وحدات الموجات فوق الصوتية الصغيرة، والتطبيب عن بعد، وتقنيات التوجيه عن بعد، والتي اُستخدِمت في محطة الفضاء الدولية وتمّ تطويرها لتُستخدم في المناطق النائية من الأرض والتي يصعب توفير الرعاية الطبية فيها.رأيت مع صديقي في محطة الفضاء الدولية العديد من التجارب الطبية تُجرى هناك والتي تُساعد في دراسة العديد من الأمراض وتطوير أدوية بها، ويقودها أطباء صعدوا إلى الفضاء واستفادوا من بيئة انعدام الجاذبية لإجراء تجارب يصعب عليهم إجراؤها على الأرض.
كما يُعد الفقدان السريع للعظام من أكثر الأعراض التي يعاني منها رواد الفضاء ويتم ذلك بمعدل 10 مرات أسرع من المعدل الذي يحدث في الأرض وذلك نتيجة لانعدام الجاذبية، حيث ساهمت الأبحاث الفضائية في فهم أفضل لآثار القيود الميكانيكية على فقدان العظام. وقد مكّن مشروع ERISTO ، الذي شارك في تأسيسه كل من CNES و ESA، من تطوير أدوات مبتكرة لقياس بنية العظام وجودة العظام التي تُستخدم حاليًا قبل الرحلات وبعدها وكذلك للممارسة الروتينية للطب السريري.
ولا ننسى بأنّ من أهمّ التحديات التي تواجه روّاد الفضاء هي الحصول والحفاظ على المياه، حيث طُوِّرت في محطة الفضاء الدولية تقنيات لتكرير المياه والحفاظ عليها، تمّ تطبيقها في مناطق الكوارث والتي يصعب فيها الحصول على المياه النظيفة.
منظومات الأقمار الاصطناعية :
وبعد أن اطّلعت مع صديقي على التقنيات الطبية التي يتم تطويرها في الفضاء، خرجت معه من محطة الفضاء في رحلة سير في مدار الأرض ورأينا معًا كيف تُساهم الأقمار الصناعية والتي تدور حول الأرض، في جعل الكثير من نواحي حياتنا اليومية أكثر سهولة وراحة لم تكن مُيسّرة قبل ظهور هذه التقنيات، وقد خُصِّصت هذه الأقمار بحيث أصبح لكل منها وظيفة ودور يساعدنا في جانب من جوانب حياتنا، ومنها على سبيل المثال:
- الأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات وتسهيلها عبر الكرة الأرضية
- الأقمار الصناعية الخاصة بالكوارث والأحوال الجوية ومراقبتها
- منظومات تحديد المواقع على الكرة الأرضية حيت تساعدنا في تحديد مكان وجودنا على الأرض أينما كنّا
تطوير الرجال الآليين (الروبوتات):
لاحظت مع صديقي أثناء جولتنا على الأقمار الصناعية خطورة البيئة الخارجية في الفضاء على حياة الإنسان، وهذا ما دفع وكالات الفضاء منذ بداية عصر الفضاء إلى تطوير الروبوتات وتقنياتها من أجل إرسالها إلى الأماكن التي يصعب على الإنسان الوصول إليها، وهذا ما ساهم بشكل فعًال في التطور الهائل الحاصل في هذا المجال.
ومن هذه المجالات الروبوتات الطبية: لقد استخدمت تقنية صناعة الروبوتات الكندية والتي تمّ الاستفادة منها في برنامج مكوك الفضاء الأمريكي ومشروع neuroARM بتصنيع أول روبوت في العالم قادر على إجراء عمليات جراحية داخل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، حيث يساعد جراحي الأعصاب في إنجاز تقنيات جراحية دقيقة بنفس الوقت المتوقع لها.
ولا ننسى التقنيات الأخرى مثل الطاقة الشمسية والبطاريات والحواسيب والتي تمّ تحسين قدرات العديد منها لكي تُناسب استكشاف الفضاء، ونحن نستخدمها في حياتنا اليومية على الأرض دون علمنا بأنّ الكثير منها طُوّر في الفضاء أو في المرافق التي تساهم في استكشاف الفضاء.
كما يمكننا الإشارة إلى أحد أخطر الأسلحة التي عرفتها البشرية “القنبلة الهيدروجينية”، حيث تولدت الفكرة لدى العالم الفيزيائي Hanz Bethe عبر استخدام الطاقة الهائلة الناتجة عن تفاعلات تحاكي تفاعلات الاندماج النووية التي تجري داخل النجم، وقام بالمساهمة في تطوير هذا السلاح الفتاك.
خاتمة
وقبل أن ننهي رحلتنا طلبت من صديقي النظر إلى الفضاء الشاسع أمامه وينظر إلى المستقبل وكيف سيستطيع أبنائنا بإذن الله استكشاف الفضاء والاستفادة من ثرواته بما ينفع البشرية، وأن يحملوا مِشعل ريادة العلم بعد أن فقدناه لمئات السنين.
وبعد أن ظهر التعب على صديقي بعد هذه الجولة المُرهِقة والتي استعرضنا فيها بشكل سريع تاريخ استكشاف الفضاء وأهم الفوائد المباشرة وغير المباشرة منه، فقد أدرك أهمية استكشاف الفضاء لما فيه من خير للبشرية، ونحن الآن نعيش أولى خطواته، وعقد العزم على التعلم ونشر العلم بما في ذلك علم الفضاء.
(هذه الخطوة لرجل ما، ماهي إلا قفزة عملاقة للبشرية) هي أول كلمة قالها الإنسان عندما وطئت قدماه سطح القمر, نعم….لقد كانت قفزة عملاقة للبشرية ولكنّها مجرد قفزة واحدة وخلق الله واسع وينتظر منّا استكشافه والاستفادة من خيراته ويحتاج منّا لقفزات وقفزات من هذا النوع.
برأيكم ، من منا على صواب؟!
المراجع:
https://spacelaunchreport.com/logdec.html
https://- https://www.nasa.gov/sites/default/files/atoms/files/ger_2018_small_mobile.pdf
https://www.uobabylon.edu.iq/uobColeges/lecture.aspx?fid=21&lcid=8891
https://www.atomicheritage.org/profile/hans-bethe