الكسيريات
الكسيريات
هل تأملت يوما في الطبيعة ولاحظت أنه غالبًا لا وجود لمربعات أو مستطيلات تامًّة… بل لا وجود لدوائر مَحْضَة أيضا؟ لا نتحدث هنا عن التقريبات والتخيلات التي يصطنعها العقل ليصل الإنسان إلى مرغوبه، إنما نقصد وجودها حقيقة من الناحية الهندسية. فهذه الأشكال حتى إن وُجدت حولك تكون عادةً من صنع البشر، لذلك هل تساءلت يوما كيف يمكننا أن نصف ما حولنا بدقة أكثر وبطريقة أقرب لما نشاهده؟
قد تجد حلا -بحول الله- لهذا في حديثنا عن الكُسَيْرِيَاتِ.
بدأت القصة مع ماندلبروت في مختبرات إ.ب.م حيث إنه كُلف باكتشاف الخلل في نقل البيانات عبر الخطوط الهاتفية. من خلال تتبعه هذه الظاهرة ومراقبة الرسوم البيانية للاضطرابات انتبه أن هناك شكلا يتكرر في كل مرة يُعاد فيها القياس مهما بلغت المدة الزمنية لهذه الرسوم، والاختلافات الموجودة بين شكلين في كل قياس لا تكاد تُذكر، سواء أطالت الفترة الزمنية للقياس أم قصرت [1].
فانكب على دراسة هذا الأمر، ومكنه التواجد في هذه الشركة من استخدام التقانة المتطورة آنذاك، فإذا به يكتشف حلا لأعمال الباحث جوليا وهو تكرار مجسمات معينة في كل مرة بمقاييس مختلفة، مما جعله بعد فهم وتحرير يخرج كتابه (الهندسة الكسيرية والطبيعة) إلى الوجود فيكون بذلك واضع الهندسة الكسيرية [1].
كما مكنه هذا الاكتشاف أن يُدخل أعمالا سابقة أُنتجت لأغراض أخرى، كمجموعة كانتور أو منحنى بيانو الذي أراد كل واحد منهما خدمة نظرية المجموعات وما شَاكَلها [2] أو الرسم البياني الناتج عن دالة فيستراس الذي كان يهدف بالأساس إعطاء مثال لدالة متصلة ولكن غير قابلة للإشتقاق في أي نقطة من نقطها.
لكن ما هي هذه الكسيريات؟
تعريفها وفق ضوابط أهل الاختصاص يطول بل ويحتاج معلومات رياضية مسبقة لتوضيحها، لذلك سنكتفي بمثال يشرح الفكرة العامة. ونرجو منك هنا أن تأخذ ورقة وقلم وتتبع الخطوات الآتية:
اُرسم خطا مستقيما أمامك، ثم قطعه إلى ثلاثة أجزاء متساوية.
إحذف القاعدة في الوسط وأضف ضلعي مثلث مكانها.
الآن تكوَّن عندك أربعة خطوط باعتبار كِلا الضلعين قطعة منفصلة.
كرر العملية مرة أخرى مع كل قطعة من هذه القطع: قسِّمها إلى ثلاثة أجزاء، ثم احذف الجزء الأوسط وضع مكانه ضلعي مثلث مرة أخرى مع حذف القاعدة.
سينتج عندك الآن ست عشرة ضلعا، أعد نفس الشيء في كل ضلع إلى أن يستحيل بين يديك رسم أصغر من ذلك.
وها هي الخطوات ملخصة في الصورة الآتية: شكل1 [3]
هذا الشكل الناتج في النهاية يُدعى منحنى فان كوخ. وكما تلاحظ فهو شبيه ببلورة ثلج صغيرة يُطلق عليها لفظ الندفة.
الغريب في هذا المجسم أنه -من الناحية الرياضية- يصبح ذا طول لا نهائي إن كررنا الخطوات مرة بعد مرة لكن مساحته محدودة وتصبح شبه منعدمة مع تكرار الخطوات السابقة، مما يجعل قياسه مختلفا له خصائص رياضية مختلفة عمَّا هو معهود، ويظهر ذلك جليا في كون بعد مجسم فان كوخ يساوي 1.2619 تقريبا!!
وهنا العجب، فكلنا يدرك البعد الأول للمستقيمات أو البعد الثاني للمساحات أو البعد الثالث للعالم الذي نعيش فيه، وقد نفهم البعد الرابع في نظرية النسبية، بل وقد نقبل التعميم الذي يصل إلى عدد طبيعي معين، لكن ما الذي يعنيه هذا البعد بأعداد عشرية؟
هنا قد يظهر لك سبب تسميتها بالكسيريات، فهي راجعة إلى كون بُعدها عددا كسريا (تذكر أن الأعداد العشرية هي حالة خاصة من الاعداد الكسرية)،
وها نحن الآن وصلنا إلى المحطة المهمة في الموضوع، كيف تُطبق هذه الأشياء فيما له علاقة بالطبيعة من حولنا؟
لا ينبغي أن نزعم أن كل المتخصصين متفقون على تقريب الأشكال الموجودة في الطبيعة حولنا بالكسيريات وذكر مثل هذا الخلاف يُرجع إلى مظانه،[4] لكن الذي يهمنا هنا كيف تُستعمل هذه “المخلوقات الرياضية” في وصف الكون من حولنا؟
للهندسة الكسيرية مجال واسع من ناحية التطبيقات فمثلا في مجال الأحياء تُمثل أغصان الأشجار وأوراق السرخس بأشكال كسيرية. وكذلك في الجغرافيا لقياس محيط بعض البلاد مثل ساحل بريطانيا أو ساحل أستراليا يُعتمد على الكسيريات فحسابها لا يمكن أن يكون بالطرق المعروفة بل لا بد أن يتم باستخدام خاصياتها.[3] لكن قد يتبادر إلى الذهن أنك في كل جذع من الشجرة لن تجد نفس عدد الأغصان، أي أنه لا وجود لتماثل متطابق بين كل الأغصان، وهذه ملاحظة مهمة، فالمثال المستخدم للشرح إنما كان لنوع خاص للكسيريات وهي التي تدعى ذاتية المماثلة، أي أنها في كل جزء منها بعد التكبير ستجد نفس الشكل الرئيسي الذي تم الانطلاق منه، وهذا النوع مهم من الناحية النظرية للتعرف على طبيعة الكسيريات في ذاتها ودراسة خصائصها ويُبتدأ بها أساسا لفهم الظاهرة في أبسط مكوناتها ثم الانطلاق إلى الحالات العامة.
وهذا لا ينفي أن الشائع في العالم الحقيقي هي الكسيريات غير ذاتية الممثالة، وهي من الناحية النظرية أكثر تعقيدا من حيث تعريفها أو حساب بعدها.[2]
فلنكمل بعد هذه الملاحظة تجليات هذه الهندسة، وهنا ننتقل إلى أجسادنا فيمكننا اعتبار الشرايين كُسيريات وكذا الرئتين فهي ذات تعقيد كسيري رائع. [5] وكذلك في الطب هناك نتائج مهمة منها ما توصل إليه الطبيب لاري نورثون حول منهجية لعلاج داء السرطان، ويعتمد بحثه أساسا على ملاحظة أن الأورام السراطانية لها بعد كسيري أكبر من بعد الأنسجة العادية مما يدل على تعقيدها الأكبر.[6] كما أن هندسة الكسيريات ساهمت في تحسين طرق التشخيص وهذبت الدراسات في تشكل الأورام. [6]وفيما يتعلق بعلم الأوعية والقلب ساهمت الكسيريات في التحقق من آليات المرض مع نفعها الواضح في تصوير القلب وقياس الضربات بشكل أدق.[7] وبعد أن ذكرنا بعض من تطبيقاته في جسم البشر فلننتقل إلى معاملاتهم، سنجد الكسيريات قد ولَّدت من رحمها نظرية جديدة في الاقتصاد تدعى “فرضية الأسواق الكسيرية” والهدف منها أساسا تحليل العشوائية اليومية للأسواق وكذا تحليل الاضطرابات خلال فترات الأزمات. كما أن هذه الفرضية تبين أن أسعار الأسهم تتحرك وفق نظام كسيري.[8]
أما في علم الحوسبة فهو لعلم الكسيريات كالشرايين للقلب، فكل منهما يمد الآخر ولا أحد يستغني عن أخيه، فمن خلال بعض البرامج الحسوبية يمكن رؤية تفاصيل هذه الكسيريات بتكبيرها والغوص في تفاصيل عديدة،[9] كما أن دقة وسرعة الحواسيب تسمح بمعرفة أبعاد الكسيريات المعقدة خاصة غير ذاتية المماثلة منها. أما من منافعها في علم الحاسوبيات فنذكر هنا أن الكسيريات تتيح ضغط الصور وتسمح بمحاكاة عديد من الظواهر الطبيعية في الحواسيب من خلال عمليات يسيرة مكررة.[10]
بذكر بعض هذه التطبيقات نكون قد وصلنا إلى نهاية مقالتنا لكن فلتكن على يقين أن التطبيقات أكثر مما ذُكر لذلك أنظر وابحث حولك واكتشف أين تتواجد هذه الكسيريات.
المراجع:
[1] ‘IBM100 – La géométrie fractale’, Mar. 01, 2012.
http://www-03.ibm.com/ibm/history/ibm100/fr/fr/icons/fractal/ (accessed Sep. 19, 2020).
[2] ‘La théorie des fractales’.
http://www.cril.univ-artois.fr/~wattez/resources/previews/fractales/theorie_fractale.php.html
(accessed Sep. 19, 2020).
[3] danpearcy.com, ‘Introduction to Fractal Geometry’, Teaching Mathematics, May 05, 2013. https://danpearcymaths.wordpress.com/2013/05/05/introduction-to-fractal-geometry/
(accessed Sep. 19, 2020).
[4] ‘(PDF) Fractal geometry is not the geometry of nature’, ResearchGate. https://www.researchgate.net/publication/229331581_Fractal_geometry_is_not_the_geometry_of_nature (accessed Sep. 19, 2020).
[5] ‘Le poumon, une fractale quasi-optimale – Brèves de Maths’.
http://www.breves-de-maths.fr/le-poumon-une-fractale-quasi-optimale/ (accessed Sep. 19, 2020).
[6] C. Schmidt, ‘The Gompertzian View: Norton Honored for Role in Establishing Cancer Treatment Approach’, JNCI J. Natl. Cancer Inst., vol. 96, no. 20, pp. 1492–1493, Oct. 2004, doi: 10.1093/jnci/96.20.1492.
[7] ‘(PDF) The fractal heart – embracing mathematics in the cardiology clinic’, ResearchGate. https://www.researchgate.net/publication/308926981_The_fractal_heart_-_embracing_mathematics_in_the_cardiology_clinic (accessed Sep. 19, 2020).
[8] D. Liberto, ‘Fractal Markets Hypothesis (FMH) Definition’, Investopedia. https://www.investopedia.com/terms/f/fractal-markets-hypothesis-fmh.asp (accessed Sep. 19, 2020).
[9] Mandelbrot Zoom 10^227 [1080×1920]. .
[10] ‘Fractal Geometry in Computer Science | Request PDF’, ResearchGate. https://www.researchgate.net/publication/233893314_Fractal_Geometry_in_Computer_Science (accessed Sep. 19, 2020).
تم والحمد لله
وفوق كل ذي علم عليم
إعداد: مريم بنيوسف
مراجعة: عبد الله عمار
تدقيق الفريق اللغوي