حرب طرابلس مع أمريكا 1801-1805
منذ حوالي قرنين من الزمن، تورطت الولايات المتّحدة الأمريكية بحربٍ مع العالم الإسلامي في البحر المتوسط، وسببها أن الدولة العثمانية كانت تجبي الجزية من جميع السفن التجارية التي تدخل البحر، وكانت بريطانيا تدفع بدورها الجزية مقابل دخولها. لكن مع استقلال أمريكا عن بريطانيا ورفعهم لأول مرةٍ علمًا خاصًّا بهم على سفنهم، رفض (يوسف باشا القرمانلي) حاكم إيالة طرابلس وكذلك بقية حكام المغرب الإسلامي في سلطنة مراكش وداي الجزائر وباي تونس معاملتهم كسفن بريطانيّة، وأمر بدفعهم جزيةً مستقلةً لهم، واتفقت أمريكا برئيسها الأول (جورج واشنطن) مع داي الجزائر على دفع مبلغ قدره 642 ألف دولار و1200 ليرة ذهبية عثمانية للدولة العثمانية مقابل الإفراج عن السفن التي احتجزها الداي (بكلر حسن التركي). وبهذه الاتفاقية، حاولت أمريكا الالتفاف حول الجزية السنوية التي فرضتها الدولة العثمانية على سفنها، ومع ذلك، لم تتعرض الدولة العثمانية وأتباعها للسفن الأمريكية خلال عام، لكن (يوسف باشا القرمانلي) حاكم طرابلس الغرب قرر إعادة النظر في تلك الاتفاقية وببنودها.
قامت الولايات المتحدة في هذه الفترة بإدخال الأسطول السادس إلى مياه البحر المتوسط، حيث كان مكونًا من بارجتين هما بريزيدنت وفيلادلفيا، كلّ واحدةٍ منهما مجهزة ب 44 مدفعًا، وبارجة أصغر ب32 مدفع وهي إيسكس، وأخرى شراعية هي إنتربرايز مجهزة ب 12 مدفعًا، وقال (توماس جيفرسون) الرئيس الأمريكي بأنه سوف يلقن هذا “الأبله العثماني” درسًا لن ينساه في فنون القتال، وأخبر نائبه بأنّه سيحقّق نصرًا ساحقًا يُدخل بلاده حقبةً جديدةً من التواجد في أكثر الأماكن حيويةً، وأصدر قرار للأميرال (ريتشارد ديل) بقيادة الحملة لتلقين العثمانيين وقراصنة شمال أفريقيا (يقصد بهذا تونس والجزائر وطرابلس ومراكش) درسًا، وفي تلك الفترة، كان (يوسف باشا القرمانلي) قد حشد جيشًا يقارب العشرة آلاف مقاتلٌ خيّال وأربعون ألف مشاة من الأهالي والعشائر المجاورة عبر إصدار قرارات إعفاء ضريبي. وفي عام 1801 طالب (يوسف باشا) بزيادة الجزية المدفوعة إلى 225 ألف دولار لكن الرئيس الأمريكي رفض ذلك، وآثر أن يتجاهل الطلب ووضع ثقته بأسطوله الحربي.
وعندما شعر الباشا أنّ الأمريكيين يماطلون في الأمر واستشعر خطر الأسطول الأمريكي الرابض في المتوسط، أمر جنوده بتحطيم سارية العلم الأمريكي قبالة القنصلية الأمريكية موحيًا بإعلان الحرب، وأرسل سفنه للبحث عن السفن الأمريكية في عرض البحر، فعثروا على إحدى السفن التجارية واقتادوها إلى طرابلس، وبعد ذلك، جاء القنصل الأمريكي يطلب من الباشا بصفة رسمية أن يترك السفن وشأنها وقام بطلب الصلح منه فرد عليه الباشا: “أيها القنصل، لا توجد أمة أريد معها الصلح مثل أمتكم، وكل دول العالم تدفع لي ويجب أن تدفع لي أمتكم”.
وحينما قال له القنصل بأن بلاده تدفع متوجبات الصلح رد عليه متهكمًا: “فيما يتعلق بالسلام قمتم فعلًا بدفع اللازم، أما فيما يتعلق بالمحافظة على السلام فلم تدفعوا شيئًا”، وحينها أمره الباشا بمغادرة البلاد فقام القنصل بتمزيق معاهدة السلام بينه وبين بلاده الموقعة عام 1796 ، ولم يتوقع الأميرال أن تجري الأمور بهذا السرعة فأمر عناصره بإغراق أكبر عدد ممكن من السفن والمراكب التابعة للإيالة.
وفي تشرين الأول من العام 1802 قامت إيالة طرابلس باتفاقية مع مملكة السويد جعلت المملكة تتخلى عن تحالفها مع أمريكا ضد طرابلس مما حقق نصر دبلوماسي (ليوسف باشا).
وفي 31 أكتوبر تشرين الأول 1803 قامت قوات الإيالة بأسر البارجة فيلاديلفيا وعلى متنها 308 بحارًا، وعلى رأسهم قائد البارجة الكابتن (بينبريدج) واقتادوها إلى شواطئ الإيالة وأطلق (يوسف باشا) عليها اسمًا جديدًا هو (هبة الله)، وقد حاولت القوات الأمريكية البحرية استعادة البارجة بشتى الطرق لكنهم فشلوا، فقرروا التسلل إليها ونسفها كي لا تكون غنيمةً بيد قوات الولاية، فتسلل 70 متطوع أمريكي إلى البارجة وقاموا بنسفها، وقد فرح لهذا الأمر كل من الأمريكيون ومختلف دول أوربا وكان ذلك في تاريخ 16 شباط عام 1804.
ولقد توقع الأمريكيون أن (يوسف باشا) سيتقدم بعد هذا العمل بطلب لإنهاء الحرب لكن الأمر لم يسر بالشكل الذي تمنوه، ففي شباط ذات العام، وضّح القنصل الدنماركي بأن بلاده لم تعد تسطيع الاستمرار بالتحالف مع أمريكا بسبب اتفاقيتها مع طرابلس، فذعرت أمريكا بسبب خسارة الدنمارك كحليف وقبلها مملكة السويد وبسبب سياسة الباشا مع بقية الدول، ورأى الأمريكيون أنّ توطيد توطيد العلاقة مع فرنسا بواسطة سفيرهم في باريس سيكون أمرًا جيدًا للتوسط، وبعد فشل تلك السياسة، اتخذوا قرارًا بالهجوم الشامل.
تحركت القوات البحرية الأمريكية من سواحل مالطا بتاريخ 27 تموز 1804 نحو شواطئ الإيالة. الهجوم الأول كان فاشلًا قليلًا أو كذلك ظنّ الأمريكيون، وبعدها حاولوا بالهجوم أربع مرات لكنهم لم يستطيعوا الاقتراب من الشواطئ، ولذلك فإن ضربات المدفعية البعيدة لم تعطِ نتيجة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ قائد سفينة ذُخر الأسطول الأمريكي (إنتريبيد) قد أصيب بجرحٍ خطير نتيجة المقاومة من قوات الإيالة وتفجيرهم للذخيرة في سفينته.
وتسببت رياح شمالية في البحر بزيادة العنف لصالح قوات طرابلس، فلم يكُ القصف والتهديد الأمريكي (ليوسف باشا قرمنلي) كافيًا لتغيير موازين القوة على الأرض، لذلك رأى (بريبل) بأن انسحابه على آخر سفينتين إلى مالطا أفضل من البقاء في المعركة. وبعد فترةٍ وجيزة، قدّم استقالته وتم تعيين (صامويل بارون) بدلًا منه. وانتقل بعدها الأمريكيون من الخطة أ خطة الهجوم إلى الخطة ب خطة الحصار.
بناءً على ذلك، كان عليهم استمالة (أحمد بك قرمانلي) الأخ الشقيق ل(يوسف باشا) حاكم الإيالة وإقناعه بأنّه أحق من أخيه بالعرش وأنّ الإطاحة بحكم أخيه ستجعله على عرش الإيالة. وبهذه الحيلة ظنّ الأمريكيون أن (يوسف باشا) إما سيلجأ إلى اتفاقٍ معهم وينقذ عرشه، أو الخيار الآخر والذي كان دعم (أحمد بك) للإطاحة بحكم أخيه.
وكخطوةٍ أولى قام الأمريكيون بمهاجمة شرق الإيالة وحشد (أحمد بك) جنودًا من المرتزقة وهاجم درنة، حيث كان قد جمعهم من مقاهي الإسكندرية معظمهم من روم جزيرة كريت وعرب آخرين. وبعد أن قدّم رشوة لوالي مصر (خورشيد باشا) تحالفا مع الأمريكيين، وبقيادة الجنرال (وليام إيتون)، هاجما درنة تحت الراية الأمريكية، فقام (يوسف باشا) بإرسال قوّاتٍ مؤلفةٍ من 4000 مقاتل إنكشاري للدفاع عنها، وكون المدينة تبعد أكثر من 1000 كم عن مركز الإيالة، فقد سقطت بيد الأمريكيين وأعوانهم عفنُ الداخل المرتزقة، ورُفع العلم الأمريكي على قلعتها. وبعد وصول القوات الإنكشارية وقوات عشائرية، فرضت حصارًا على درنة، وبعد عدة أيام، أقدم الأمريكيون المحتلون و(يوسف باشا) على عقد اتفاق سلامٍ فالسفن التي فقدها الأمريكيون، والأسرى 300 الذين كانوا بيد الإيالة، وإيصال المؤن والأغذية إلى القوات المحاصرة في درنة، وظهور علامات ندم على الخيانة من طرف (أحمد بك)، كل هذا دفع الأمريكيين إلى قبول شروط الإيالة وتقبل الهزيمة إضافةً إلى وجود 100 أسير في يد الأمريكيين في درنة، وخوف (يوسف باشا) من ظهور خياناتٍ أخرى، دفعه إلى عقد اتفاق سياسي وعدم السير بحلٍ عسكري قتالي لإخراج المحتلين من درنة.
ونتيجة كل ذلك، عُقِدَت اتفاقية في 10 حزيران 1805 مع طرابلس، ونصّت الاتفاقية على إطلاق كلا الجانبين الأسرى، وكون قوات الإيالة تملك 200 جندي أسير زيادة، فتوجب على أمريكا دفع 60 ألف دولار ذهبي لخزينة الإيالة. (جاء في بعض الرّوايات أنّ المبلغ الذي دُفع في حزيران 1805 كان 3 ملايين دولار ذهبي).
لكن توجب على الإيالة دفع ستة آلاف دولار كهدية للقنصل الأمريكي الجديد في طرابلس، كما توجب على الأمريكيين إخلاء مدينة درنة على الفور، وعلى أمريكا أن تدفع لطرابلس ضرائب مالية سنوية تقدر ب 20 ألف دولار ذهبي سنويًّا مقابل دخول سفنها إلى البحر الأبيض المتوسط، وظلّت أمريكا تدفع الجزية حتى العام 1812 عندما دفعوا 62 ألف دولار ذهبي في اسطنبول، حيث كانت تلك المرة الأخيرة.