أبرز المُناظَرات العلميّة في العصر الحديث(3)
فيرنر هايزنبيرغ & أروين شرودِنر (الجزء الأول)
تعود جُذور المناقشات التي دارت بين الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg والفيزيائي النمساوي أروين شرودِنر Erwin Schrödinger إلى وقت مُبَكِّر من عام 1926 م مع محاولة كلّاً منهما تفسير سلوك الإلكترون في الذّرة.
وقد تضمنت المراحل الأولى من النقاش إصرار هايزنبيرغ وزملاؤه المقربون على صِحّة ما يُعرف بِميكانيك المصفوفات matrix mechanics (وهي طريقة رياضية تشير ضِمنًا إلى أنّ معرفتنا بموقع الإلكترون لا تتعدى الإحصاء للأماكن التي يمكن أن يوجد فيها)، وبين شرودِنر وزملائه أيضًا الذين دافعوا عمّا يعرف بِميكانيك الموجات wave mechanics (التي تصف ضمنًا الموجة المادية للإلكترون، والتي يمكن تحديدها بدقّة).
في البداية، لم يستطع معظم الفيزيائيين تقبّل مصفوفات هايزنبيرغ بسبب طبيعتها المجردة ورياضياتها غير المألوفة. وبدلًا من ذلك، رحبوا بميكانيكا شرودِنر عندما ظهرت لأول مرّة، فقد تضمنت معادلات ومفاهيم سلسة، كما بدت مبتعدة عن التقطّعات والقفزات الكمومية التي تصفها مصفوفات هايزنبيرغ (والتي واجهت اعتراضاً واسعاً عندما اقترحها بور لأول مرة).
وقد ذكر شرودِنر عام 1926 م: “كنت أعرف نظرية هايزنبيرغ بالتأكيد، لكن شعرت بالإحباط بسبب أساليب الجبر البعيدة عن الواقع والتي بدت صعبة بالنسبة لي، ومفتقدة لإمكانية التَّصَوّر”. وقد وجد شرودِنر ما يدعم موجاته المادّية في إنجازات لويس دبرولي Louis de Broglie الذي اقترح أن السلوك الموجي لا يقتصر على الضوء فقط؛ بل يمكن للمادّة أيضًا أن تسلك سلوكًا موجيًّا.
استنادًا إلى هذه الفكرة (التي حظيت بدعم آينشتاين أيضًا)، نشر شرودِنر في مايو عام 1926 م إثباتاته في أن ميكانيك الموجات والمصفوفات تعطي نتائج متكافئة، بل هما نظرية واحدة من ناحية رياضية، كما جادل أيضًا بتفوق ميكانيكا الموجات على المصفوفات.
وقد اثار ذلك ردّة فِعْل غاضبة لدى هايزنبيرغ الذي أصرّ بعناد على وجود تقطّعات وقفزات كمومية بدلًا من وجود موجات مستمرة (غير متقطّعة)، حيث كتب إلى دبرولي: “كلما أكثرت التفكّر في الجزء الفيزيائي لنظرية شرودِنر كلما شعرت بأنها مثيرة للاشمئزاز”. على أية حال، فقد افتقر هايزنبيرغ إلى الدليل الحاسم في إثبات نُبُوءته.
لاحقًا (وبالاستفادة من إنجازات ماكس بورن وبول ديراك وجوردن) عثر هايزنبيرغ على الحلقة المفقودة في حساباته، ولفهمها لابد أن نتذكر بأنه: وفقًا لميكانيك نيوتن؛ فإن موقع وزخم أيّ جسيم يمكن تحديدهما سويّةً بدّقة وبشكل حتمي كلّما تحرك الجسيم لحظيًّا. عمليًّا، لم تنطبق هذه القوانين على الجسيمات دون الذرّية، فغالبًا ما كانت القياسات تتسم بعدم اليقين والرّيبة، وقد ظنّ العلماء أنّ سبب ذلك يعود لقصور في أجهزة القياس أو خطأ من المراقب.
إلا أنّ هايزنبيرغ أظهر أنّ حالة الرّيبة أو عدم اليقين هذه ليست خطأ المراقب، بل هو مبدأ متأصل في ميكانيك الكوانتم. إنّ محاولتنا لتحديد زخم الجسيم يقضي على فرصة تحديد موقعه، يشير هذا المبدأ ضمنًا إلى إلغاء فكرة القياس الحتمي لخصائص الجسيمات واستبدالها بنتيجة عشوائية للتوزيعات الاحتمالية. وقد أثبت هذا المبدأ أن معادلة شرودِنر بإمكانها التنبؤ بالتوزيعات الاحتمالية، لكنها في الأساس لا تستطيع التنبؤ بالنتيجة الدقيقة لكل قياس. وقد أكد هايزنبيرغ على هذه النتيجة في رسالة منشورة عرفت فيما بعد باسم مبدأ الّلايقين uncertainties.
المصادر: 1 2