ما بعد الحملة الصليبية الأولى .. عن الذلّ والهوان الذي أصاب المسلمين
عن الذلّ والهوان الذي أصاب المسلمين بعد الحملة الصليبية الأولى..
«ما إن يستولي الإفرنج على حصن حتى يهاجموا آخر، وسوف تتزايد قوّتهم حتى يحتلّوا بلاد الشام بأسرها ويطردوا منها المسلمين»
فخر الملك ابن عمّار، صاحب طرابلس.
سنة 1100م، القدس الآن كاملة في أيدي الصليبيين، ونفوس المسلمين لم تقدر على تجاوز الصدمة، وبدأت الرقعة تتسع رُويدًا رُويدًا ليفقد المسلمون مدنهم واحدةً تلو الأخرى، حتى تمكن الغزاة من احتلال جميع سواحل الشام، وبدأ الصليبيون تأسيسَ عدّة إمارات عُرفت تاريخيًا بالإمارات اللاتينية أو الممالك الصليبية.
البداية كانت مع إمارة الرُّها التي أسّسها بودوين دوبولوني، بعد أن أرسل صاحبها الأرمني للصليبيين رسالة استنصار سنة (492هـ- 1098م) فلبّى دوبولوني دعوته، لكنه غدر به ونصّب نفسه ملكًا على الرُّها وما حولها، وبقيت هذه الإمارة أكثر من قرنٍ تخضع للصليبيين، حتى جاء آل الزنكي وفتحوها من جديد.
أمّا بيت المقدس، فقد حُوِّل هو الآخر إلى مملكةٍ صليبيةٍ مستقلّة، تخضع بقية الإمارات الصليبية لها، وكانت تحظى بمكانة كبيرة عندهم، ومَن يتولَّ حكمها يُلقّب بـ “الملك”، عكس بقية الإمارات التي تتبع مملكة بيت المقدس، وكانت هذه المملكة أعظم شأنًا، وأوسع رقعةً؛ إذ امتدّت حدودها من أقصى شمال بيروت إلى جنوب عسقلان، كما كانت تشمل جميع الأراضي المحصورة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. واستمرّت هذه الإمارة في اتساعها حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فتراجعت إلى ساحل البحر، متخذةً من مدينة عكّا عاصمةً لها. ولم يقف عدّاد الإمارات الصليبية عند بيت المقدس والرها، فهناك إمارة طرابلس التي تأسست سنة (496هـ- 1102م) واستمرّت قرنين، كما تأسست في الشمال إمارة أنطاكيا تحت قيادة الأمير النورماني بوهيموند، وكانت بمنزلة بوابة الإمداد والحشد الصليبي لبقية الإمارات.
نظرة جيو-استراتيجية على الوضع بعد سقوط بيت المقدس:
لم تكن الإمارات الصليبية المؤسسة بعد الحملة الصليبية الأولى تعيش باستقرار أو بالقوة الكبيرة التي رسمتها المصادر الغربية، ولم يمنع من إزالتها وبقائها قرنين سوى الضعف والتضعضع الذي كان سمة الجيوش الإسلامية، وبالرغم من احتلال القوات الصليبية لبيت المقدس ومعظم السواحل في بلاد الشام، فإنهم لم يستطيعوا التوغّل والتوسع داخل أرض الشام.
وبنظرةٍ جيو-عسكرية للمنطقة إبّان تلك الفترة، نجد أنّ مجمل الإمارات الصليبية التي أسّسها الصليبيون كانت تحت حصار المسلمين، إلّا الجهة الغربية المتاخمة للبحر المتوسط، فالجيوش الإسلامية الممثَّلة بسلاجقة قونية ترابط في الشمال، ومن الشرق كان السلاجقة والأتابكة في كلٍ من دمشق، وحمص، وحماة، وحلب، والموصل، ومن الجنوب كانت الدولة الفاطمية. هذا الحصار الذي يشعر به الصليبيون طَوال الوقت كان بمنزلة الهاجس الذي أرّقهم من انبعاث نهضة إسلامية فتية تقوم بإلقائهم في البحر يومًا ما.
وهذا الهاجس (توحّد المسلمين لصدّ الحملة الصليبية الأولى) سرعان ما أفل عند الصليبيين بعد أن رأوا الفتن والهوان الذي استحوذ على معظم الدول والإمارات الإسلامية؛ ففي الوقت الذي كان الإفرنج يستبيحون القدس فيه كان محمد بن ملكشاه يحارب أخاه بركياروق من أجل الحكم، وأحقية كل منها به، كما أنّ جهود فخر الملك أبي علي بن عمّار حاكم طرابلس في الاستنجاد بالخليفة المستظهر بالسلطان محمود ببغداد باءت بالفشل، لتُسلّم طرابلس عروسًا بدون ولي.
ولعلّ أبلغ ما صوّر حالة المسلمين في تلك الفترة ما قاله الأبيوردي في قصيدته بعد سقوط القدس في يد الصليبيين مطلع القرن الثاني عشر، قال:
مزجنا دماءً بالدموع السواجم ولم يبق منّا عرضة للمراحم
وشرّ سلاح المرء دمعٌ يفيضهإذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهًا بني الإسلام إن وراءكم وقائع يُلحقن الذُّرا بالمناسم
أتهويمة في ظلّ أمن وغبطة وعيش كنوّار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العِدا رماحهم، والدين واهي الدعائم
المصادر :
-محمّد العروسي المطوي، الحروب الصليبية في المشرق والمغرب.
-أمين معلوف، الحروب الصليبية كما رآها العرب.
-د. قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية.
-د. سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية.