اقتصاد الكورونا… الربع الأول من 2020
اقتصاد الكورونا… الربع الأول من 2020
نرى العالم وقد بدأت معالمه في التغير، وخاصة في العشرين سنة الماضية، نتيجة حروب وكوارث وانهيار اقتصادات وتهديد أخرى وأزمة عام 2008 الاقتصادية، خنقت بعض الاقتصادات وألزمت بعض الدول بإجراءات صارمة لتخطي المرحلة. واليوم، يواجه العالم خطراً أشد وأعظم من أي أزمة اقتصادية، إذ إن أي أزمة اقتصادية سابقة كحرب أو كساد أو مرض سابق حتى، كان يمكن السيطرة عليها من خلال إجراءات سريعة وحازمة. لكن اليوم يختلف الأمر، فهناك اختلافات جذرية في هذه الحالة، إذ إن جميع الاقتصادات ترتبط ببعضها من خلال اتفاقيات سياسية واقتصادية لا يمكن تجاوزها، فأي أزمة اقتصادية تضرب بلداً ذا اقتصاد قوي ستؤثر على بقية الاقتصادات. اليوم تقف دول عظمى عاجزة أمام هذه الكارثة، فقد ورد في موقع “الاقتصادي” (The Economist)، عندما تحدث عن وباء الكورونا: “من المحتمل أن يسبب الركود الأكثر وحشية في الذاكرة الحية” (1). ولا شك أن العالم أجمع سيتغير بعد (كورونا)، إلا أننا لا نستطيع قياس مدى التغير على نحو دقيق، ولذلك سنحاول من خلال هذه المقالة قياس أثر الأزمة اليوم، ومحاولة استقراء المستقبل الاقتصادي للعالم.
لابد أن ندرك أن الأثر المترتب على الأحداث الأخيرة مع ظهور الجائحة المعروفة بـ (Covid -19)، قد يمتد إلى عدة سنوات قادمة، إذ إن هذه الجائحة استنزفت كثيراً من الموارد، ما قد يؤدي بالضرورة إلى نقصها، وإلى ارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض الأجور، وانخفاض نسبة النمو للناتج الإجمالي، لتصل بنا الأمور بالتدريج إلى مرحلة الكساد. كما أن صندوق النقد الدولي يتوقع انخفاض النمو العالمي، أي انكماشاً، عام 2020 إلى %-3، وهبوطاً من 6.3 نقطة مئوية في كانون الثاني/ يناير 2020، وهو تعديل كبير في مدة قصيرة جداً. وهذا يجعل (الإغلاق العام الكبير) أسوأ ركود منذ سنوات (الكساد الكبير) سنة 1929، وأسوأ بكثير من الأزمة المالية العالمية سنة 2008 (2).
الدول الكبرى لا تستطيع تحمل التبعات الاقتصادية للجائحة على المدى الطويل، وهي تحاول تخفيف الأثر الاقتصادي للأزمة الحالية من خلال ضخ نحو 5 تريليونات دولار في الاقتصاد للحفاظ عليها، لا لتحريك عجلة الاقتصاد التي لا تزال متوقفة، أي كالذي يحقن إبرة تخدير في جسد الاقتصاد العالمي لتخفيف الألم، غير أن هذه الحالة لن تدوم مع توقف عجلة الاقتصاد (3).
وكما أن الاقتصادات الكبرى تأثرت، فإن الدول النامية ليست بأفضل حالاً، إذ دعت الأمم المتحدة في معرض كلامها لتوفير حزمة دعم مالية للدول النامية تقدر بنحو (2,5) تريليون دولار، لمواجهة الأزمة الحالية (4)، وبما أن هذه الدول لا تمتلك بنية تحتية قوية، فهي الأكثر عرضة للانهيار، ما يؤدي إلى دخول هذه الدول في أزمة كبيرة قد تؤدي بالنهاية إلى دخولها في نفق مظلم تجر العالم كله إليه، من حيث حدوث الفوضى والاقتتال الداخلي والخارجي، والبحث عن الموارد، والسعي للبقاء، أي إنها ستصبح حرباً وجودية.
يتوقع مركز (بروكنغز) أن الدول التي تمتلك بنية اقتصادية متضعضة وعندها صراعات داخلية ولا تملك الموارد الكافية لمواجهة الجائحة، كالعراق وسوريا، أنها الأكثر تأثراً، إذ إن الحروب أنهكتها واستنزفت الموارد ودمرت هيكلية الدولة الإدارية والنسيج المجتمعي، ما يؤدي بالنهاية إلى عدم استقرار في الاقتصاد الكلي واضطرابات شعبية. أما على مستوى بعض الدول المستقرة سياسياً مثل الجهورية التركية، فهي ليست بأفضل حالاً، إذ إن هذه الجائحة تسببت في تغير معالم الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تركيا، حيث اتخذت الحكومة إجراءات حازمة، من بينها رزمة تدابير تحفيزية بقيمة 15.4 مليار ليرة تركية، وإقفال الحانات والنوادي الرياضية والنوادي الليلية وتعليق صلاة الجمعة وفرض حظر الرحلات الجوية. ولا ننسى دول الخليج التي قامت بالإجراءات المتبعة عالمياً لاحتواء المرض، من خلال إيقاف الرحلات الجوية من الدول الأكثر تأثراً بالجائحة وإليها، وإقرار حزمة من التدابير، أبرزها تحفيز اقتصادي بقيمة 97 مليار دولار، ولكن يبقى قطاعا النقل والسياحة أكثر المتضررين من الجائحة (5).
أما على الصعيد الإفريقي، فتعد دول القارة السمراء من الدول الرئيسة في تصدير المواد الخام مثل النحاس والنفط، ومع توقف حركة النقل، أُلغي كثير من الصفقات مع الصين التي تعد شريكاً استراتيجياً في المجال الاقتصادي للقارة الإفريقية، ومن المتوقع انخفاض الطلب على المواد الخام مثل النحاس بنسبة تقدر بنحو %7، ويترتب الأثر أيضاً على القطاع النفطي مع انخفاض التصدير وانخفاض أسعار المشتقات النفطية عالمياً، وتأثر قطاع السياحة بسبب إلغاء تأشيرات الدخول، التي كان معظمها بقصد السياحة إلى أراضيها، إذ تقدر خسائر شركات الطيران الإفريقية بنحو 400 مليون دولار أمريكي حتى شهر آذار/ مارس 2020. كما تأثرت سوق السلع والخدمات في القارة، وذلك لأن 49% من السلع في إفريقيا مصدرها صيني، ومع تقييد حركة التجارة والنقل سيصعب الحصول على البضائع الصينية وتوريدها إلى السوق الإفريقية (6).
بالنسبة للقارة الأمريكية الجنوبية، فهي ستواجه تراجعاً في إيرادات التصدير، إما بسبب هبوط أسعار السلع الأولية، أو نتيجة انخفاض حجم الصادرات وخاصة إلى الصين وأمريكا (7). هذا وقد أعلنت وزارة التجارة في الولايات المتحدة الأمريكية عن تراجع مبيعات التجزئة بنسبة 8.7% جراء انتشار الوباء، وتراجع عائدات المطاعم إلى 26.5%، بسبب إغلاق أبوابها، وتزايد البطالة مع اضطرار 16.7 مليون شخص إلى تقديم طلبات للحصول على مساعدات، واعتماد الشركات سياسة التسريح المؤقت للعمال، ومنح عطل لهم، إذ لم يشهد سوق العمل في الولايات المتحدة كهذه الكارثة منذ 50 عاماً (8).
كما خفّض صندوق النقد الدولي على نحو كبير توقعاته للنمو في منطقة اليورو، في وقت أنهكت إجراءات الإغلاق الهادفة لاحتواء فيروس (كورونا) المستجد الاقتصاد الأوروبي. وتوقّع أن يتراجع اقتصاد المنطقة %7.5 هذا العام، في هبوط حاد غير مسبوق منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، كما يتوقع الصندوق انكماش الاقتصاد البريطاني الذي غادر الاتحاد الأوروبي في كانون الثاني/ يناير الماضي بنسبة %6.5، ورجح الصندوق أن يكون أداء الاقتصاد في منطقة أوروبا بالمجمل، الأسوأ في العالم (9).
كما نشر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في الرابع من آذار/مارس الماضي، (مذكرة تقنية)، تقيم الآثار الاقتصادية المرتبطة بالتفشي، متحدثةً عن انخفاض في مؤشر المشتريات التصنيعية الصيني بحوالي 20%، ما يؤثر على مجمل انسيابية الاقتصاد العالمي، إذ تعد الصين أكبر المصدرين في العقدين الماضيين، وجزءاً لا يتجزأ من منظومة الإنتاج العالمي. ويقدر هذا الأثر بانخفاض بنحو50 مليار دولار في التجارة بين الدول، وستكون الدول النامية المنتجة للمواد الخام أكثر المتضررين (10).
أما بالنسبة إلى التداعيات المستقبلية لهذه الجائحة، فإنها تبقى رهن الظروف المحيطة، ومدى فاعلية الإجراءات المتبعة في كل دولة على حدة، وعلى المستوى العالمي. كما أنه كلما استمرت هذه الحالة، ازداد الأثر على مستقبل العالم ككل، وازدادت حدة التنافس على الموارد وفقد عدد أكبر من الأشخاص لوظائفهم. لذا فإن على دول العالم الاستمرار في الإجراءات الاحترازية، لأنها الأضمن للاستقرار وعدم العودة إلى نقطة الصفر التي لا يحمد عقباها، ومن باب التفاؤل يتوقع صندوق النقد الدولي في تقرير (آفاق الاقتصاد العالمي) لشهر نيسان/ أبريل 2020 انحسار الجائحة في النصف الثاني من العام الحالي مع إمكانية تخفيف جهود الاحتواء بالتدريج، كما أنه من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بمعدل 5.8% عام 2021، مع عودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته (11).
المصادر:
https://arabic.cnn.com/business/article/2020/03/26/coronavirus-g20-virtual-summit-saudi-arabia