التطور وعلم الأجنة ونموذج “ساعة الرمل” : شرح منطق “دليل الأجنة” و تبعيات سقوطه.
التطور وعلم الأجنة ونموذج “ساعة الرمل”:
شرح منطق “دليل الأجنة” و تبعيات سقوطه.
علم الأجنة هو العلم الذي يهتم بكيفية تَخَلُقْ الجنين من بيضة ملقحة تسمى Zygote (وهي خلية واحدة فقط) إلى كائن كامل النمُوّ، مكون من آلاف إلى مئات تريليونات الخلايا (حسب نوع الكائن)، و هذا عبر دراسة أنماط انقسام هذه الخلية الملقحة وتمايزها وتخصصها لتكوين مختلف الخلايا المكونة للكائن، مثل الخلايا العصبية أو خلايا الجلد أو الخلايا العضلية، وكيف تتموقع هذه الخلايا وتتخذ أماكنها المحددة في الجنين وتتراكب مع بعض لتكون أنظمة منسجمة ووظيفية كاملة والتي بدورها تتركب لتنتج لنا كائن حي كامل.
منذ أن طرح داروين نظرية التطور عبر الانتخاب الطبيعي وحتى وقت قريب جدا من تاريخ هذه النظرية، كان أحد أهم الأدلة المتداولة على صحتها مبنياً من علم الأجنة، وخاصة رسومات “أرنست هيجل” لأجنة الفقاريات.
مثلت هذه الرسومات أحد أهم الأدلة التي إعتمد عليها داروين و من تبعه في إقناع العالم بصحة نظرية التطور. مع أن داروين لم يتفق مع هيجل في عدة تفاصيل، إلا أنهما كانا متفقين عامة في صحة استخدام الأجنة كدليل على حدوث التطور.
كما سنرى في هذا المقال -إن شاء الله- فالدليل استمد قوته من كونه توقع منطقي جدا لنظرية التطور (لو كانت صحيحة). وما كان اختلاف داروين وهيجل إلا في أن هيجل التزم بهذا التوقع حرفيا ودافع عنه ولفق رسوماته الشهيرة للدفاع عنه وعن التطور. هذا الالتزام المنطقي الذي قام به إرنست هيجل و دافع عنه أصبح معروفا ب “قانون النشوء الحيوي أو Biogenetic law” وأيضا ب “ontogeny recapitulates phylogeny أو “التكون الجنيني يلخص تاريخ نشوء الأحياء”.
لفهم منطق هذا التوقع وسبب الاحتجاج به وتبعيات سقوطه, وظهور بطلانه, على النظرية، سأضرب مثالا للتبسيط:
أول خطوة في مثالنا هي أن تحاول أن تتخيل أن لديك “خطة مبرمجة وآلية” لبناء كوخ خشبي، تخيل هذه الخطة كرجل آلي، كل ما عليك فعله أنت هو توفير المواد الأولية فقط و تضغط زر التشغيل والباقي كله يحدث تلقائيا (آليا) عبر خطوات دقيقة ومبرمجة.
هذه الخطة الألية و المبرمجة تحدد متى يُحضر هذا الرجل الألي الحطب، كيف تُبني وتُوضع الأُسُسْ، متى يتم إدخال الماء والغاز وكيف يتم ذلك كله حسب هندسة الكوخ…الخ من التفاصيل التي يجب أن تحدث بطريقة دقيقة، فكل خطوة تعتمد على حدوث الخطوات التي قبلها ولابد من ذلك.
الخطوة الثانية، تتمثل في أن تتخيل — فقط من أجل الجدل — أنه من الممكن تغير هذا الكوخ الي ناطحة سحاب عبر خطوات صغيرة جدا وتراكمية، مثلا، إضافة باب ثم إضافة عمود ثم تغير جدار…الخ. أيضا، كل هذه التغيرات يجب أن تكون جزء من البرنامج الآلي لبناء هذا الكوخ.
السؤال الآن هو: ما هي الطريقة التي تتوقع أن تتغير بها خطة بناء هذا الكوخ لتصبح خطة بناء ناطحة سحاب؟ هل يمكن للخطوات الأولى التي تشكل أساس كل الخطوات التي تأتي بعدها في خطة بناء الكوخ أن تتغير و لو بطريقة طفيفة؟
الخطة المبرمجة والآلية لبناء الكوخ لن تتغير أبدا! ستبقى ثابتا! هذا بسبب كونها هي الاساس الذي بنيت عليه خطة بناء ناطحة السحاب، فانطلاقا من تصميم الكوخ بني كل شي وصولا إلى ناطحة السحاب. فلو ذهبنا إلى ناطحة السحاب هذه وشاهدنا كيف تبنى من الأول لكنا شاهدنا ولابد أنها تمر بمرحلة كوخ في صناعتها ثم ربما مثلا، مرحلة بناية ثم مرحلة عمارة ثم عمارة عالية…الخ. سوف نراها تمر عبر كل المراحل التي مرت عليها أثناء تطويرك لهذا الكوخ خطوة خطوة إلى أن حولته إلى ناطحة السحاب!
الان لو شبهنا تطور كائن متعدد الخلايا وبسيط (سلف كل الحيوانات) الي كائن معقدة ومتعددة الخلايا (مثل الحيوانات المعاصرة)، بتطور الكوخ الي ناطحة السحاب! فإن خطة بناء الكوخ المبرمجة والآلية تمثل برنامج التطور الجنيني للسلف البسيط، ما سنتوقع هو أن هذا البرنامج سيبقى بدون تغير أبدا لأنه أساس كل التغيرات التي ستأتي وتجعله برنامج تطور جنيني لكائن معقد مثل القرد أو الدجاجة او الذبابة…الخ (حيوانات معاصرة).
إذا فلو صح الادعاء أن الحيوانات تطورت عن أسلاف مشتركة فإننا نتوقع أن نرى كل خطوات هذا التطور تحدث أثناء التكون الجنيني لهذه الحيوانات! وأيضا نتوقع أنه كلما زادت صلت قرابة كائنين تطوريا كلما زادت نسبة تشابههما في برنامجهما التطوري.. مثلا القط والإنسان يتشابهان في برنامجهما التطوري أكثر مما يتشابه الإنسان مع السلحفاة. أيضا، نتوقع أننا كلما شاهدنا التكون الجنيني في مراحله الأولى والمبكرة من بدايته، كلما زاد عدد أنواع الكائنات التي تتشابه في تلك المرحلة! مثلا، لو شاهدنا التكون الجنيني بعد يوم واحد من بدايته (هذه إرقام افتراضية فقط لإيصال الفكرة) سنجد أن الثدييات والزواحف تتشابه في هذه المرحلة وكل المراحل التي قبلها، لكن لو شاهدنا التكون الجنيني بعد نصف يوم فقط من بدايته (أي مرحلة مبكرة أكثر) سنجد أن الثدييات والزواحف والبرمائيات والأسماك تتشابه في تلك المرحلة وفي كل المراحل التي قبلها.
إذا هذا كان التوقع المنطقي لنظرية التطور:
“الحيوانات المختلفة جدا في شكلها البالغ! لابد وأن تتشابه في مراحل تكونها الجنيني وتزداد نسبة الشبه كلما كانت المرحلة الجنينية المقارنة مبكرة أكثر، حتى نصل الي مرحلة الخلية الواحدة”.
هذا الأساس النظري القوي هو ما دفع داروين والعالم الألماني أرنست هيجل الذي تبنى نظرية التطور ودافع عنها بشراسة، إلى استخدام التطور الجنيني كدليل لحدوث التطور الدارويني، ويبدوا أن هذا الدافع النظري القوي هو ما دفع هيجل للتدليس في رسوماته وجعل الأجنة في رسوماته الشهيرة متشابهة أكثر مما هي عليه حقا فيما اعتقد هو بأنه المراحل الاولى للتطور الجنيني. ومع أن بعض العلماء حتى في زمان هيجل أشاروا الي التدليس وخطأ تلك الرسومات! إلا أن التطوريين استمروا في استخدامها كدليل على التطور حتى مطلع القرن 21!! ولا تزال بعض الكتب تستخدمها إلى اليوم!! بينما سحبتها معظم الكتب التدريس الاخرى! (للمزيد من التوثيق أرجوا العودة لكتابي جوناثان ويلز “أيقونات التطور و علم الزومبي”).
يصعب الدفاع على “إرنست هيجل” من تهمة التدليس المتعمد!! فدفاعه الشرس على نظرية التطور والدافع النظري القوي لتوقع أن أجنة الحيوانات يجب أن تزداد تشابها كلما كاتت مراحل التكون الجنيني أبكر! أعطاه انحيازا كبيرا نحو إثبات ما يعتقد به، ولو أخذنا بعين الاعتبار رسوماته للكائنات المجهرية ودقت هذه الرسومات. فسيصبح من شبه المستحيل القول إنه أخطئ عن غير قصد!! فلا يمكن أن يخطئ عن غير قصد لتلك الدرجة!!!
لكن حتى ومع حقيقة أن رسومات إرنست هيجل مفبركة والتي اكتشفت فبركتها منذ زمن, التطوريون لم يناقشوا أبدا قضية إسقاطها من الكتب الدراسية!! بل الأمر تطلب نقاد التطور ليشيروا اليها, نقاد التطور هم الذين فجروا القضية للرأي العام!! خاصة كتاب “أيقونات التطور لمؤلفه لجوناثان ويلز” في 2000.
لكن أكبر إشكال لنظرية التطور من الأجنة، ليس فقط تدليس “إيرنست هيجل” بل هو أن ما كان يعتقد أنه أول مراحل التطور الجنيني في وقت داروين وهيجل! أكتشف أنه منتصف الطريق في التطور الجنيني! و أن هناك مراحل كثيرة تسبقه (مراحل أبكر), من وقت تلقيح البويضة الي الوصول الي مرحلة رسومات هيجل!
المفاجئة كانت أن المراحل الأولي للتطور الجنيني مختلفة كلية عن بعضها البعض!! فتبدأ الأجنة مختلفة تماما ثم تتقارب الي مرحلة معينة تكون فيها متشابهة نوعا ما (ليس بدرجة رسومات هيجل!!!) ثم تختلف عن بعضها البعض من جديد. الامر يشبه شكل الساعة الرملية! لها قاعدة عريضة ثم عنق ضيق ثم سقف عريض! لهذا أطلق عليه اسم “نموذج الساعة الرملية”.
إذاً، إذا كان أحد أقوى التوقعات المنطقية لنظرية التطور، والذي من المرجح أنه كان الدافع وراء تدليس وفبركة إيرنست هيجل، قد سقط و تهدم! فماذا بقي للتطور؟ إذا كان هذا الدليل يشبه الي حد ما البرهان القاطع على صحة التطور بسبب قوة المنطق الذي بني عليه! أليس اكتشاف أنه خطئ يعتبر برهان قاطع أن النظرية خاطئة؟؟
الإشكال أنه في عالم التطور والتطوريين، لا مشاهدة ولا أي توقع خاطئ للنظرية يمكن أن يخطئها أو يدحضها فهي خارج مجال الشك مرفوعة فوق أعمدة الفلسفة المادية ولا دليل علمي يقوى على هدمها!! بل سيتم ترقيعها وإجاد مبررات للمشاهدات الناقضة لتوقعاتها ثم يتم إعادة تدويرها وكنس المسألة تحت البساط والتعتيم عليها!! فلا يسمع بها إلا من قلب الأحجار تقليبا!!
مثلا، الآن وبالرغم من المنطق القوي الذي بنيت عليه مسألة تشابه الأجنة هذه و أكسبتها طابع الدليل القوي, الآن التطوريون يقولون أن الأجنة وبرامج تكونها يمكن أن تتغير, إذا لا التطور لا يستلزم التشابه!! لهاذا لا تتشابه الأجنة! لقد تم الترقيع بنجاح!!
تَخيل أن برنامج التطور الجنيني للسلف المشترك، والذي نتجت عنه كل الحيوانات وبرامجها الجنينية، يمكن أن يتغير أمر يكاد يشبه المستحيل! لأن كل شي مبنى عليه! فلو تغير شي واحد فقط هذا سيؤثر في كل خطوة تأتي بعده و تُبنَى عليه!!! الأمر يشبه تغير خطة بناء الكوخ المبرمجة والآلية أثناء تطويرك له إلى ناطحة السحاب، الإشكال أن كل شيء تطوره وتضيف ليصبح الكوخُ نَاطحة سحاب، مبني على أساس هو صحة خطة بناء الكوخ! فيصبح تغيرها أمر من المستحيلات!!!
لن يسقط التطور، ليس بالتقدم العلمي على كل حال، بل بثورة فكرية فلسفية. التطور دين الماديين الطبعانيين.
انتهى.
بقلم: طالي معمر محمد الأمين
تصميم وتدقيق: غيث وليد