توليد أشعة سينية بمعدل تكرار قياسي
توليد أشعة سينية لينة بمعدل تكرار قياسي
يُعَدُّ تَوليد نبضات ضوئية ذات مُدَّة زمنية قصيرة في نطاق الأتوثانية (attosecond = 10^(-18) second) مفتاحًا مهمًّا للتعمق في فهم الطبيعة على مستوى الذرة. إذ إن هذا النطاق الزمني يعد المقياس الطبيعي لتوصيف كثير من العمليات الإلكترونية في الذرات والجزيئات والمواد الصلبة. ولتوليد نبضات كهذه، توجد أنظمة ليزر متاحة تعمل في النِّطاق الطَّيفيِّ فوق البنفسجي. وحديثًا تمَّ تطوير أجهزة ليزر يمكنها الذهاب إلى نطاق الأشعة السينية اللَيِّنَة (soft x-ray) لتبلغَ ما يُسَمَّى نافذة الماء «water window». يطلق هذا الاسم على النافذة الطَّيْفِيَّة التي تتراوح بين 2.2 و4.4 نانومتر (nanometer = 10^(-9) meter). ويعود سبب تسميتها إلى أنَّ الأمواج الضوئية في هذه النافذة لا تُمْتَصُّ من قِبَل جُزَيء الماء، ولكن يمتصها الكربون، مِمَّا يسمح باستخدامها لدراسة الجزيئات العضوية والعَيِّنات البيولوجية في بيئتها المائية الطبيعية، دون أن تقوم هذه الأخيرة بالتفاعل مع الأشِعَّة.
على الرغم من وجود عِدَّة مصادر نبضات ضوئية على مستوى الأتوثانية «Attosecond sources» بوسعها تغطية نطاق نافذة الماء، فإنَّ أبرز العِلَلِ التي مازالت موجودةً هي معدل تكرار النبضات الضئيل نسبيًّا والذي لا يكاد يتجاوز الكيلوهرتز الواحد (KHz). هذا العائق يَحُولُ دون القيام بالعديد من التجارب العلمية بسبب رَداءة نسبة الإشارة إلى التشويش «signal-to-noise ratio».
غَيرَ أنَّهُ نجحَتْ مؤخرًا مجموعةٌ من الباحثين في المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ بِتَخَطِّي هذه العقبة [1]. حيث وُلَّدوا ما يُعرف بالتوافقيات عالية الترتيب «High Harmonics» والتي يمكن استخدامها مصدرًا لنبضات ضوئية على مستوى الأتوثانية لتغطية نطاق نافذة الماء مع معدل تكرار يناهز مئة كيلوهرتز، أي أفضل بمئة مرة من المصادر الموجودة.
يُمْكِنُ تبسيط طريقة توليد التوافقيات عالية الترتيب من خلال نموذج الخطوات الثلاثة شِبْه الكلاسيكي [2,3,4]:
أولًا، وباستخدام الليزر، يتم تسليط نبضات ذات قدرة عالية ومُدَّة زمنية تُقَدَّرُ بالفمتوثانية (femtosecond = 10^(-15) second) على هَدَفٍ مُعَيَّن، وغالبًا ما يكون هذا الهدف هو أحد الغازات النبيلة. تَنقُلُ هذه النبضاتُ الإلكترونَ من الحالة الأرضية «Ground State» إلى حالة ذَرِّيَّة ذات طاقة أعلى من جُهْدِ التَأْيين «Ionization Potential»، بفضل خاصية النفق الكمومي «Quantum Tunneling».
ثانيًا، وبعدَ أن أصبح الإلكترون شبه حرٍّ، تُصْبِحُ حركتُهُ محددةً بحقلِ الليزر الخطِّيِّ الذي يجعله يتذبذب ذهابًا وإيابًا، في حين أنَّ نواة الذَّرَّة تبقى ثابتة.
بما أن الإلكترون يتذبذب بشكلٍ خطيٍّ بالقربِ من النواةِ، فمنَ المحتملِ أنْ يتمَّ التِقاطُهُ مجدَّدًا عند اقترابه من النواة. وعندها سيعود إلى حالته الأرضية مولدًا بذلك الفوتون المتوافق «Harmonic Photon».
إذًا، فهذه التوافقيات بدورها تحتاج إلى مَصدرٍ لتوليدها. وللتَّأَكُّدِ مِنْ أنَّها سَتُغَطِّي نِطاقَ نافذةِ الماء، لا بُدَّ من أنْ يعمَلَ هذا المصدر في مجال الأشعة تحت الحمراء المتوسطة، وأن تكون نبضاته الضوئية سريعة وذات قدرة عالية بما فيه الكفاية. مصدر شعاعي كهذا لم يكن متوفرًا في الماضي القريب.
في محاولةٍ سابقةٍ لباحثي زيورخ [5] تمكنوا من توليد شعاع ليزر قريب من الشعاع المطلوب باستخدام تقنية تضخيم بصري «Optical Parametric Chirped Pulse Amplifier». بلغ طول الشعاع الموجي 2.5 ميكرومتر تقريبًا (micrometer = 10^(-9) meter) مع مُدَّة زمنية للنبضة تناهز 14.4 فيمتوثانية. وبلغت ذروة قدرة النبضات 6.3 مليار واط مع معدَّل تكرار يساوي مئة ألف مرة في الثانية، إلَّا أن هذه القدرة ليست كافية لبلوغ نافذة الماء. في محاولة حديثة لهؤلاء الباحثين [6] تمكنوا من تحسين تقنية التضخيم المستخدمة سابقًا، لتبلغ ذروة قدرة النبضات هذه المرَّة 14 مليار واط، مع فارقٍ بسيط في الطول الموجي (2.2 ميكرومتر) وفي مدة النبضات (16.5 فيمتوثانية). وبفضل هذه القدرة الهائلة والخصائص الأخرى المذكورة مجتمعة يمكن لهذه الأشعة توليد التوافقيات عالية الترتيب المَنْشودة.

الخطوة التالية بعد توليد الأشعة تحت الحمراء كانت نقلها عبر مرايا ذات انعكاسية فائقة إلى مختبر آخر على بعد 15 مترًا، حيث ستصطدم بعَيِّنَة من الهيليوم الموجودة تحت ضغط 45 بار «bars»، ليتمَّ بذلك توليد التوافقيات عالية الترتيب المطلوبة بنجاح. وقد التُقطت صورةٌ حراريَّة لهذه اللحظة كما هو موضح في الصورة المرفقة. ويظهر فيها مصدر الأشعة تحت الحمراء إلى يسار أُنبوب يحتوي غاز الهيليوم الموجود تحت ضغط مرتفع. أمَّا على يمين الهيليوم فتظهر التوافقيات عالية الترتيب، أي الأشعة السينية اللَيِّنة.
تُتيح الأشعة تحت الحمراء التي طورها الباحثون في زيورخ [6] توليد أشعَّة سينِيَّةٍ لَيِّنَةٍ بمعدَّلِ تكرارٍ كبير. مِمَّا يسمح بانطلاق مجموعة واسعة من التطبيقات الجديدة في الكيمياء والبيولوجيا والتي لم تكن متاحة في السابق، كما يُبَشِّر بقدوم جيل من تكنولوجيا الأتوثانية. هذا ويعمل باحثو زيورخ الآن على تجهيز المعَدَّات اللازمة بهدف استغلال هذه القدرات الجديدة في التجارب العلمية.
المصادر :
[1] ETH Zurich Department of Physics. “X-ray vision through the water window.”ScienceDaily. ScienceDaily, 8 April 2020.
[2] Krause et al. Phys. Rev. Lett. 1992, 68 (24) 3535-3538.
[3] Schafer et al. Phys. Rev. Lett. 1993, 70 (11) 1599-1602.
[4] Corkum Phys. Rev. Lett. 1993, 71 (13) 1994-1997.
[5] Bigler et al. Optica 2018, 26 (20) 26750-26757.
[6] Pupeikis et al. Optica 2018, 7 (2) 168-171.عب